الهوية الوطنية شرط لبناء الدولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان تأسيس الدولة العراقية مطلع عشرينيات القرن المنصرم حدثاً على درجة كبيرة من الأهمية، فقد كان نقطة تحول هامة في العلاقة بين السلطات القائمة والمواطن، تحول من العثمانية إلى الوطنية مؤسساتياً ومجتمعياً، إلا أن هذه العلاقة عانت إشكالية من نوع خاص تتعلق بمدى قرب الدولة الوليدة من شعبها، فقد كانت هناك فجوة كبيرة بين قيم الدولة وتقاليدها وأساليب تعاملها مع مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والقضائية المنصوص عليها في الدستور وفي القوانين المتفرعة عنه .

وفي عقلية نخبها وتطلعاتهم وآفاق تفكيرهم وبين ما هو سائد في المجتمع من قيم وتقاليد وممارسات حرصت مرجعيات قوية التأثير على إدامتها على مدى مئات السنين على مستوى الانتماءات الدينية أو المذهبية أو القومية أو القبلية أو المناطقية، ويمكن القول إن الدولة العراقية الفتية المشبعة بالروح والقيم المدنية ولدت معزولة عن مجتمعها فقد كانت متقدمة بمسافات عما كان سائداً فيه من قيم وتقاليد.

أولى المهمات التي واجهت الدولة الوليدة هي معالجة هذه الإشكالية وفرض نفسها بديلاً عن المرجعيات التقليدية المختلفة الأخرى، وهي مهمة لم تكن سهلة حيث وجدت نفسها في مواجهة إعاقة كبيرة حين عمدت بريطانيا الدولة الوصية على العراق إلى التعامل مع حالة التركيبة الاجتماعية والاقتصادية بشكل مجتزأ لا يسمح بالانصهار في وحدة وطنية حين شرعت نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية لهدف معاملة أبناء العشائر استثناء من الآخرين، وذلك لمنح شيوخها السلطات القضائية ضماناً لكسبهم لصالح سيطرتها على العراق.

مع أن ثورة الرابع عشر من يوليو عام 1958 قد ألغت قانون دعاوى العشائر وأجرت إصلاحات هامة تتعلق بملكية الأراضي الزراعية إلا أن حالة عدم الاستقرار التي فجرتها في ظروف إقليمية ملتهبة ترتب عليها اصطفافات من نوع جديد لم تخل أسسه من العرقية أو الطائفية أو المناطقية رغم غطائها السياسي.

لم تتمكن حكومات الانقلابات العسكرية المتعاقبة من إعادة صياغة الهوية الوطنية لغياب الحلول الحقيقية للمشاكل التي تبرر الاصطفافات، على الرغم من أن الخصائص العامة التي تربط المواطن بالدولة بقيت، بهذا الشكل أو ذاك، دون تغيير، إذ بقيت الدولة تقدم نفسها مرجعية تتحلى بالملامح والتقاليد المدنية.

بقيت أفكار الدولة المدنية تلقى تفهماً وترحيباً في أوساط قلة من النخب الثقافية التي لم تجد ضيراً في الانسلاخ عن نهج التبعية لمرجعياتها التقليدية صانعة لنفسها مرجعيات أخرى بعيدة عن الانتماءات الضيقة عن طريق تشكيل الأحزاب السياسية أو الانخراط في تنظيمات فكرية وثقافية لأن لا مصلحة لهذه النخب للإبقاء على ما هو قديم ولا تكريس الموروث القيمي لما قبل الدولة.

فرصة تأريخية سنحت للعراق لإعادة بناء الدولة على أسس مدنية معاصرة في عام 2003 إلا أن الجهود لذلك تعثرت لأسباب كثيرة محلية وإقليمية، فعلى المستوى المحلي تغلبت أجندة التهميش على أجندة البناء على الرغم من وجود الأطر القانونية للبناء المؤسساتي في الدستور.

فالقوى السياسية التي تصدرت العملية السياسية لم يكن لديها مشروع لبناء الدولة ولا برامج لتوحيد الصف الوطني، لذلك لم تعجز عن مواجهة المشاكل والأزمات التي ترتبت على الانقسامات الحادة في المجتمع خاصة ما يتعلق منها بالجانب الأمني فحسب بل أصبحت مصدراً لها.

هذا في الوقت الذي تقلص فيه دور القوى الأخرى الداعية للبناء على أسس مدنية معاصرة وترسخت بشكل أعمق من ذي قبل عوامل التفكك والتقسيم.

من جانب آخر لعبت التدخلات الإقليمية دوراً كبيراً في إعاقة بناء الدولة، فقد تغلغل النفوذ الإقليمي بعمق في جميع مفاصل الدولة مستفيداً من نظام المحاصصة العرقية والطائفية وموظفاً إياه لإضعاف هيبتها وتقزيم شأنها لصالح بدائل أخرى، فصورة الدولة العراقية الحالية ليست بعيدة عن صورتها عام 1921 فهي الأخرى معزولة.

ولكن ليس للأسباب نفسها، لا تشعر فصائل عديدة من الشعب بالانتماء لها وهو ما يفسر عودتها للتمسك بمرجعياتها التقليدية وتصاعدت تبعاً لذلك الدعوات للانفصال بشكل كلي أو جزئي.

وكان لهذا الفشل تداعيات بالغة الخطورة على مجمل الأوضاع في العراق، الأمنية منها بشكل خاص، فقد أفسح المجال لنشوء التنظيمات الإرهابية وتعاظم دورها إلى الحد الذي سمح لتنظيم داعش احتلال ثلث مساحة البلد، ما ضاعف إلى حد بعيد من الأزمات التي تعصف به خاصة أن الحرب القائمة على هذا التنظيم منذ ثلاث سنوات تسببت بظهور أزمات جديدة جراء الخسائر الكبيرة في الأرواح والخراب الهائل في المدن وهجرة أو تهجير مئات الآلاف من ديارهم.

ها نحن بعد أربعة عشر عاماً على سقوط الدولة العراقية عام 2003 لا نزال نعيش إرهاصات بناء الدولة وكأن كل هذه السنين وما شهدته من أحداث مروعة لم تكف لإقناع الساسة بعقم برامجهم وبؤس أداءهم، فما نشهده من حراك سياسي على المستوى الرسمي لا يرقى إلى مستوى المخاطر التي تحيق بالبلد وبمستقبله.

 

 

Email