الإنصاف والتحيز

ت + ت - الحجم الطبيعي

حينما تضع في مكتبك أو منزلك صورة هائلة لديكتاتور تعشقه كيف نتوقع أن يكون حديثك عنه منصفا؟ حينما تعرض كل محاسن الشيء وتنسى ذكر شيء من مساوئه كيف يمكن أن تكون منصفا. عندما لا تكف عن صب جام غضبك على حكومة أو إدارة أو صديق بعد نشوب خلاف في الرأي كيف نتوقع أن تكون منصفا.

هناك من يتحول إلى صفوف المعارضة لأنه حُرِمَ من منصب عام لا يستحقه فيفتح نيران حقده على الجميع.

هناك من ينتقم من «وطنه» بالتشهير به خارجيا لأن السلطات لم تقرر سوى أن تطبق عليه القانون.

نحن نعيش في زمن قل فيه الإنصاف وكثر فيه التحيّز والتعصب للرأي والفكرة.

إذا كان الإمام مالك قد قال قبل أكثر من 1200 عام: «ما في زماننا شيءٌ أقل من الإنصاف»، فماذا سيقول لو عاش في زماننا.

تفتح قناة تلفزيونية أو صحيفة فتراها تمجد بزعيم سحق شعبه. تفتح كتابا فيكون «الجواب باين من عنوانه» كما يقول المصريون مثل عنوان «القول الفصل في محاسن أبي الفضل» (عنوان من مخيلتي)! كيف نتوقع أن تعرض سائر صفحاته عرضا منصفا؟ صحيح أن البعض كما يقول الطيب صالح: لديه مهارة فائقة في دفن رأيه بين صفحات الكتاب. لكن البعض الآخر قد يفتقد لهذا العرض الموضوعي.

تعلمنا في الكتابة الأكاديمية أنك كي تقدم مادة علمية رصينة لا بد أن تكون كتابتك نقدية «critical» أي تظهر الجانبين بطريقة نقدية متوازنة، وهو ما تعلمناه أيضا في إعداد المادة الصحافية، مع الفارق في عمق الأول ومتانة وعلمية مصادره. والأمر يختلف في مقالات الرأي؛ لأنها مجرد رأي يمكن أن يكون موضوعيا أو عاطفيا أو ساخرا أو سطحيا لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يدفعك للتأمل ولا للتفكر.

ومن صور الإنصاف أن تنصف نفسك وغيرك وتحديدا أصدقاءك ومحبيك. لذا قال المنفلوطي في العبرات: «إن صديقَك الذي يبسِمُ لك في حالَي رضاك وغضَبك، وحِلمك وجهلِك، وصوابك وسقطِك، ليس ممن يُغتَبَط بمودته، أو يوثَقُ بصداقته، لأنه لا يصلُح أن يكون مرآتَك التي تتراءى فيها».

جمال الإنصاف في أنه يصرف إليك أنظار المعجبين ويصرف عنك أصناف المتعصبين. ولطالما كان الإنصاف رديف الموضوعية وقرين العقلانية، لذا كان أدعى للقبول والاحترام ونبذ الخلاف.

ولُب البغضاء أصله انحرافنا عن جادة الإنصاف وتشبثنا بتلابيب التحيّز، لذا قال تعالى «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا» أي: لا يحملنكم بغضهم على ألا تقولوا الحق. وقديما قالت العرب: الْإِنْصَافُ أحسن الْأَوْصَاف.

إن الإنصاف كلٌ لا يتجزأ، فلا يعقل أن تكون متحيزا ومنصفا في آن واحد!.

 

Email