رئاسة فرنسا.. خارج كل الحسابات

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجولة الثانية في الانتخابات الفرنسية، لن تقرر فقط مستقبل هذه الدولة الكبرى، لكنها ستقرر لسنوات عديدة قادمة مصير الاتحاد الأوروبي، بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات واسعة على العالم العربي وعلى العالم كله.. ومن هنا الاهتمام الضروري بمتابعة هذه الانتخابات التي تجرى وسط تغييرات عميقة في فرنسا وأوروبا والعالم.

كما كان متوقعًا أصبحت المنافسة على رئاسة فرنسا محصورة بين المرشح الشاب ماكرون واليمينية المتشددة مارين لوبان، والاثنان من خارج التيارات الحزبية الرئيسية التي حكمت فرنسا منذ أن أنشأ ديغول الجمهورية الخامسة عام 1958.

فوز لوبان يعني خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وسير هذا الاتحاد في طريق الانهيار كما يتمنى كل من الرئيس الأميركي ترامب والرئيس الروسي بوتين، ولكل أسبابه ودواعيه.

خروج فرنسا، بعد بريطانيا، من الاتحاد الأوروبي سوف يضرب في العمق فكرة «الاتحاد»، وسوف يفتح الباب أمام تيارات اليمين المتشدد الانعزالي «ومعها بعض التيارات اليسارية المتشددة» إلى السير بدول أخرى من أعضاء الاتحاد في نفس الطريق.

والخطر الأشد هنا أن هناك انتخابات قريبة في ألمانيا.. وأن المستشارة ميركل تواجه تحديات كبيرة من معارضة تريد الانفصال عن أوروبا، وترى أن ألمانيا تحملت أعباء كثيرة وفتحت أبوابها للملايين من الأوروبيين والمهاجرين، وأن اقتصادها دفع الكثير من أجل أوروبا موحدة.

فوز لوبان يعني انتعاش هذا التيار ونجاحه في إقصاء ميركل، ويعني وضع كلمة النهاية في قصة الاتحاد الأوروبي، ويعني فترة من الاضطراب في هذا الجزء الحيوي في العالم. ويعني أن حلف «ناتو» سوف يتفكك، وأن العولمة وحرية التجارة سوف تواجهان موجة من الانغلاق والإجراءات الحمائية.

على الجانب الآخر.. فإن فوز ماكرون سوف يمنح أوروبا فترة لالتقاط الأنفاس، وسوف يستعيد فاعلية قيادة مؤثرة لها من فرنسا مع ألمانيا التي ستزداد فرصة ميركل في استمرار قيادتها بتوجهاتها المناصرة للوحدة الأوروبية في مواجهة ضغوط داخلية من اليمين المتطرف الانعزالي، وضغوط خارجية سواء من روسيا بوتين، أو أميركا ترامب.

الإحساس بالخطر دفع كبار السياسيين من كل الاتجاهات السياسية تقريبا إلى الدعوة للاصطفاف وراء ماكرون. وأعطى هذا التأييد الانطباع بأن المعركة محسومة، وأن ما حدث لوالد المرشحة لوبان قبل خمسة عشر عاما سيتكرر مع ابنته. حينما اصطف الجميع يومها وراء شيراك، ضد لوبان الأب، ليحقق فوزاً كبيراً في الجولة الثانية والحاسمة.

في المنافسة الحالية بين ماكرون والسيدة لوبان، ومع إعلان القيادات الحزبية والسياسية تأييدها لماكرون، تصور الجميع أن قصة 2002 ستتكرر، وتصرف ماكرون فور إعلان نتائج الجولة الأولى على أنه الرئيس الفائز! لكن الواقع جعل الجميع يستفيقون على الفور، ويدركون أن «المعركة لم تحسم بعد»..

والواقع السياسي في فرنسا يقول إن الظروف الآن غير ما كانت عليه قبل خمسة عشر عاما، وأن المعركة لن تكون سهلة.. والأسباب كثيرة:

لقد نجحت الابنة لوبان خلال السنوات الماضية، في جعل حركتها اليمينية المتطرفة جزءا من الحياة السياسية الفرنسية.. وبالتالي أصبح وجودها كمنافس أساسي على الرئاسة أمراً طبيعياً بالنسبة للمؤيدين وحتى للمعارضين الذين يسعون لإسقاطها، لكنهم يدركون أنهم لم تعد -كما كان أبوها- جسماً غريباً على فرنسا، بل خصماً سياسياً يمثل شريحة مهمة في المجتمع.

كل هذه العوامل تقول إن الجولة الحاسمة في الانتخابات الفرنسية لن تكون تكرارا لمعركة شيراك مع لوبان الأب قبل خمسة عشر عاما. والمنافسة على رئاسة فرنسا تجرى خارج كل الحسابات والمعركة لم تحسم بعد!

Email