هكذا نفسد الحوار

ت + ت - الحجم الطبيعي

مازلت أتذكر كيف طفح الكيل بالرئيس الأميركي السابق أوباما من شدة انزعاجه من الطريقة التي كان يقاطعه بها مذيع في محطة «فوكس نيوز» الأميركية، المعارضة له آنذاك،.

حيث قاطعه الأخير أكثر من 22 مرة في مقابلة تلفزيونية لم تتجاوز مدتها 11 دقيقة. الرئيس الأميركي «الديمقراطي» الذي عرف عنه رباطة جأشه، وسعة صدره لتقبل مختلف الآراء وسبق أن أظهر براعة لافتة في نقاشاته مع ألد خصومه أثناء الانتخابات، قد امتعض بشدة من طريقة إدارة دفة الحوار في المقابلة، وطلب من المذيع أكثر من ثماني مرات أن لا يقاطعه ويمنحه الفرصة الكافية للرد على الأسئلة.

ولم يكن أوباما متجنيا في طلبه؛ فالمذيع اعتذر بنفسه – في نهاية المقابلة التي حللتها – عن كثرة المقاطعات، لكن اعتذاره جاء متأخرا لأنه «أفسد الحوار» بمعنى الكلمة وانحدر بأصوله المتعارف عليها، على الأقل في التحدث مع رؤساء الدول أو الشخصيات العامة المهمة.

عندما يتحدث المرء مع شخصية مهمة، خاصة في اللقاءات الرسمية فلا بد من أن «يُنزِل الناس منازلهم» – كما تقول العرب – بحيث يمنح المتحدث المكانة اللائقة به، أي أن يفكر مليا في السؤال وفي طريقة طرحه؛ فتوجيه السؤال إلى طفل أو مجرم يختلف عن طرحه على شخصية عامة لها وزنها.

والأمر نفسه ينطبق حينما يتحدث الموظف مع رئيسه في العمل، أو مع المدير العام أو الوزير أو الوكيل أو السفير وغيرهم، فحري بالإنسان أن ينتقي أفضل الأساليب في التحاور، خاصة عند إبداء الاختلاف.

وهناك فارق بسيط جدا بين المقاطعة اللبقة والمقاطعة غير اللبقة، لم يدركه مذيع قناة «فوكس» التلفزيونية، وهو ما جعله يقع في فخ المقاطعة 22 مرة، ما جعل بعض المشاهدين ينزعجون من الفوضى الحوارية التي تسبب فيها.

الفارق المقصود هو «التوقيت»؛ فلو أن المذيع أجل مقاطعته إلى أن تكتمل فكرة الرئيس أوباما، لجاءت في سياقها السليم، ولاعتبرت «سؤالا»، ولربما أحرجت الرئيس، ولكن المقاطعة «أثناء تحدث الشخص والإصرار عليها» هي بعينها الأسلوب المذموم الذي لا بد من أن نتحاشاه جميعا لنرتقي بحوارنا.

عندما يكرر محاورنا كلمات، كالتي وجهها الرئيس أوباما بامتعاض إلى المذيع، مثل: «دعني أكمل، لا تقاطعني، أنت لا تمنحني الفرصة للرد على أسئلتك..» .

فهذه كلها إشارات يجب أن ننتبه فور سماعها، لأنها تظهر أننا بدأنا في الخروج عن آداب الحوار، وإذا تجاهلناها ربما يؤدي ذلك إلى إثارة غضب المتحدث أو استفزازه، فيعاملنا بالمثل ليتحول النقاش إلى «صراع الديكة»، وهو ما نشاهده في بعض الفضائيات العربية التي تدعي أنها تمنح الفرصة للاتجاه المعاكس للتعبير عن رأيه.

أفضل طريقة لإحراج محاورنا الذي لا ينفك يقاطعنا، هي التوقف فورا عن الحديث، حتى تثير لحظات الصمت المفاجئة انتباه الحاضرين، وبعدها نقول للمتحدث المشاكس: «أفرغت؟»، فإن قال نعم، نقول: «إذا دعني أكمل حيث إنني لم أقاطعك».

هنا قد يحرج ويتغير سلوكه. ولا ننس أن هناك من لا تتغير طريقته في الحديث لأنه نشأ في بيئة مليئة «بحوارات الطرشان» إن جاز التعبير، فيصعب أن تغير هؤلاء ردودنا على فعلهم. هذه هي الفئة التي يجدر بنا أن لا ندفعها للتفاوض عنا أو نتحاشى توليها زمام إدارة اجتماع أو أن ندخل معها في جدل عقيم لأننا ببساطة سنزيد الطين بلة.

في الختام، أدعو القراء المهتمين إلى مشاهدة المقابلة، المذكورة آنفا، عبر موقع «يوتيوب» بوضع كلمات «مقابلة أوباما (فوكس نيوز)» باللغة الإنجليزية حتى يرى القارئ بنفسه مثالاً حياً لأساليب النقاشات التي يجب أن نتحاشاها في التحاور مع الآخرين.

وليتنا نمعن النظر جيدا في تعابير الرئيس الأميركي لندرك مدى شعور من يتعرض للمقاطعات المزعجة أثناء كلامه. ولمن يحب الاستزادة فقد فصلت ذلك في دراستين عمليتين أعددتهما خصيصا لكتابي وكان بعنوان «لا تقاطعني!»

 

Email