العرب أمام انقلابات العالم

ت + ت - الحجم الطبيعي

لدينا ما يكفي من مشكلات ويزيد، وأمامنا أخطار هائلة علينا مواجهتها، من إرهاب إخواني - داعشي – إلى تدخل فارسي، إلى حروب بالوكالة على أرضنا العربية.

وعلينا أيضاً أن نراقب تقلبات السياسة الأميركية، وأهداف السياسة الروسية، ومخاطر الجنون الذي يهدد بحرب نووية بسبب أزمة كوريا الشمالية، وكيف نواجه قوى إقليمية تتصور أن هذه فرصتها لضم أقسام من العالم العربي إلى مناطق نفوذها أو تحويل أراضيها إلى ملحقات أو مستوطنات.

ومع ذلك كله.. فعلينا ألا نهمل ما يجري في أوروبا من تطورات مهمة وانتخابات مصيرية في دول رئيسية ما زالت تقود الاتحاد الأوروبي وتحفظه من الانهيار (مثل فرنسا وألمانيا) أو تغادره في ظروف بالغة الأهمية والخطورة (مثل بريطانيا).

ويبدو الاتحاد الأوروبي – رغم كل التحديات – متماسكاً حتى الآن، لكن نظرة على مسلسل الانتخابات العامة التي ستجرى في أهم دولة (والتي أضيفت إليها الانتخابات التي دعت إليها أخيراً رئيسة وزراء بريطانيا) تقول إننا قد نفاجأ – بعد وقت قريب – أننا أمام أوروبا أخرى، أو أننا بلا أوروبا موحدة على الإطلاق.

قطار الانتخابات - الذي ينطلق اليوم الأحد من فرنسا – يبدو مثل قطار المفاجآت الذي يركبه الناس في المناسبات والأعياد ولا يعرفون إلى أين يذهب بهم! لكنهم يعرفون فقط أنهم سيعودون في نهاية الرحلة إلى محطة البداية.. وقد لا يجدونها – في الحالة الأوروبية – كما تركوها وهم يركبون القطار في بداية الرحلة.

في فرنسا التي تخوض اليوم معركة انتخابات غير مسبوقة، يبدو المرجح – إذا لم تحدث مفاجآت صارخة – أن ينتهي أكثر من نصف قرن من توالي يمين الوسط مع يسار الوسط على حكم الجمهورية الفرنسية، أداء الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في ظل ظروف داخلية وخارجية بالغة التعقيد، أدى إلى تفكك حزبه الاشتراكي، وإلى ضياع فرصه في الانتخابات بعد أن قرر عدم الترشح لولاية ثانية.

أما يمين الوسط بقيادة الحزب الجمهوري، الذي كان قبل شهور طويلة ضامناً الوصول إلى الإليزيه، فقد أضاعته مناورات الرئيس السابق ساركوزي الذي رفض الحزب ترشيحه، فقرر معاقبته بوضع العراقيل أمام وصول آلان جوبيه الذي كان مرشحاً بامتياز ليكون الرئيس الفرنسي القادم، فإذا به يسقط في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب لمصلحة فيون الذي انفجرت في وجهه الفضائح المالية بعد ذلك لتبعده عن أن يكون المنافس الأساسي في الانتخابات العامة بعد أن رفض التنحي، وأصر على مواصلة المعركة الانتخابية في مخاطرة أودت بحظوظ الحزب الجمهوري وأصبحت تهدد مستقبله في الحياة السياسية الفرنسية.

حتى الآن تبدو مرشحة اليمين المتطرفة، ماري لوبان، مرشحة رئيسية للفوز في الجولة الأولى، ويبدو ماكرون هو المنافس الحقيقي لها بدعم من المصالح المالية والاقتصادية الكبرى التي تخشى من كارثة اقتصادية وسياسية إذا وصلت لوبان للحكم.

ورغم أن وصول لوبان وماكرون للجولة الثانية يحسم الأمر لمصلحة ماكرون المنحاز لاستمرار فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي إلا أن المشهد كله يقول إن فرنسا جديدة ستكون في الساحة الأوروبية بعد الانتخابات.

بالمقابل رئيسة الوزراء تيريزا ماي تقرر - في مفاجأة من العيار الثقيل - إجراء انتخابات مبكرة بعد ستة أسابيع فقط، معللة ذلك بوجود انقسامات داخل البرلمان، وخلافات بين الحكومة والمعارضة حول القضايا المتعلقة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما قالت إنه يضعف موقفها في المباحثات مع أوروبا للخروج بصفقة منصفة لبريطانيا.

الحقيقة أن تيريزا ماي راهنت على الانقسامات داخل حزب العمال البريطاني، وعلى نجاحها بصورة فاقت التوقعات في عبور المرحلة الصعبة السابقة، وعلى انشغال أوروبا بالانتخابات الفرنسية، وعلى دعم الرئيس الأميركي ترامب لها لقيادة عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واستعادة علاقتها التاريخية كحليف أساسي لواشنطن.. راهنت رئيسة الوزراء البريطانية على كل هذه العوامل لإجراء الانتخابات المبكرة، بهدف السيطرة الكاملة على مقاليد الأمور داخل حزب المحافظين، وزيادة أغلبيتها داخل البرلمان بما يمكنها من أن تكون تاتشر الجديدة التي تثبت جدارتها بزعامة بريطانيا لسنوات مقبلة في وجه تحديات كبيرة.

لكن كل هذا الحسابات قد لا تقود إلى النتيجة التي تتوقعها ماي.. فعلينا ألا ننسى أن ما يقرب من نصف الشعب البريطاني «بمن فيهم رئيسة الوزراء نفسها» كانوا ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

يبقى كل ذلك مقدمة للمعركة الأساسية التي ستجرى في العام المقبل، مع إجراء الانتخابات البرلمانية في ألمانيا، حيث تخوض المستشارة ميركل أقسى معاركها في ظل ظروف في غاية الصعوبة، رغم كل إنجازاتها.

تخوض ميركل المعركة ضد معارضة يمينية ويسارية تهاجم سياستها التي استضافت مليون لاجئ، والتي دعمت الاتحاد الأوروبي وأنفقت الكثير لمنع انهياره.

وتخوض ميركل المعركة في ظل عدم توافق في السياسات بينها وبين الرئيس الأميركي ترامب الذي يفضل التعاون مع دول أوروبا بعيداً عن «الاتحاد الأوروبي» ولا يريد ألمانيا قائداً لأوروبا الموحدة، ولا يريد أوروبا الموحدة أساساً! وتخوض ميركل المعركة في ظل صعود مطرد لليمين المتعصب ضد الإسلام، واتهامات لها بالمسؤولية عما يرتكبه المهاجرون من جرائم في أوروبا، بينما نجد الرئيس التركي أردوغان - ولأسباب انتخابية ضيقة - يرسل خطاباً صديقاً للعنصرية أو محرضاً عليها، حين يتهم الحكومة الألمانية التي استقبلت مليون لاجئ معظمهم من الشرق الأوسط بأنها حكومة نازية، تكره المسلمين الذين استضافت مئات الألوف منهم ليكونوا مواطنين في بلد ديمقراطي، وليسوا أسرى في معسكرات لابتزاز العالم أو لتصدير الإرهاب.. كما يفعل آخرون.

كل ما أرجوه أن نكون - كعرب - موجودين في أيام مهمة ستقرر مصير أوروبا لعقود مقبلة، ومصير أوروبا أكثر التصاقاً بمصيرنا من دول تقع على بعد مئات الآلاف من الأميال منا، وتتعامل في المنطقة كما لو أنها تتنافس في لعبة «الشطرنج» وتحرك بعض أعوانها كما تحرك قطع الشطرنج لكي تكسب المباراة.

فلنراقب جدياً ما يحدث في أوروبا، ولنستعد لكل الاحتمالات.

Email