«بريكسيت» على طريقة ماي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أثارت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي المادة 50 من الدستور بعد تسعة أيام فقط من إعلان متحدث باسم «داوننغ ستريت» بأنه «لن تكون هناك انتخابات عامة في البلاد».

ولم تكن تلك المرة الأولى التي تنفي فيها ماي بلسانها أو عبر متحدث باسمها بأنها سوف تلجأ إلى إجراء انتخابات مبكرة خلال فترة مباحثات البريكسيت، بل المرة الخامسة في الواقع. ففي الرابع من سبتمبر 2016 قالت: «لن أدعو إلى انتخابات مبكرة، لقد قلت بوضوح إني بحاجة لفترة من الوقت، وللاستقرار لكي أتمكن من التعامل مع القضايا التي تواجه البلاد، وإجراء الانتخابات عام 2020.» وكررت بعد شهر واحد قولها بأن «الاضطرابات» التي ستحدثها «الانتخابات المبكرة» لن تنعكس إيجابياً على بريطانيا.

ولا يعتبر إدخال البلاد في دوامة الانقسام ثم التراجع تصرفاً سياسياً غير اعتيادي، فرئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون دعا إلى الاستفتاء بخصوص البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي وقدم استقالته فور صدور النتائج.

إنه لمن المبرر إذاً بأن تثير خليفته المادة 50 ثم تعلن الاستسلام وتقرّ بأن الوقت قد حان لإجراء انتخابات عامة فوضوية، إنها مسألة بغاية الاستهتار، لكنها مبررة.

وقد سبق لنا أن سمعنا بأنه سيكون أمام المملكة المتحدة أقل من 18 شهراً للتوصل إلى اتفاق بشأن البريكسيت مع الاتحاد الأوروبي وليس عامين، وذلك منذ البدء بعقد الاجتماعات التمهيدية لإرساء أسس الاتفاق، واحتساب العطل الصيفية لمختلف الحكومات ذات العلاقة، كما الوقت الإضافي للحصول على الموافقات، ويفرض التعامل مع 27 بلداً ضرورات بيروقراطية هائلة، لكننا نخسر المزيد من الوقت والموارد لحساب حملة الانتخابات العامة وتداعياتها.

ولا تعتقد ماي بوجود مشكلة على الإطلاق، باعتبار أن «عدم التوصل لاتفاق، أفضل من إبرام اتفاقية سيئة»، كما لا يخفى على أحد عدم اكتراث ماي منذ زمن لفكرة قضاء بريطانيا على أوروبا من خلال بريكسيت قاسي الشروط، وبالاعتماد فقط على قواعد منظمة التجارة العالمية للتبادل مع الدول المجاورة، وإذا اعتمدت التعريفات الجمركية لمنظمة التجارة العالمية، والتي تتخطى كثيراً تلك التي نتمتع بها اليوم في ظل الاتحاد الأوروبي، فإن الشركات البريطانية ستواجه تكاليف إضافية لا تقل عن 4.5 مليارات جنيه إسترليني، وفقاً لأحدث التحليلات الاقتصادية. وقد لا تنفع أو تشفع عندئذ مقولتي «استعادة السيطرة» و«البريكسيت يعني البريكسيت» لعمال بريطانيا.

وبات واضحاً اليوم إدراك ماي بأن المفاوضات للبريكسيت على أسس صحيحة لن يكون ممكناً التوصل إليها ضمن المهلة الزمنية المنصوص عليها في المادة 50، وأنها لم تكن تنوي المحاولة أصلاً، ولا عجب بأننا لم نسمع الكثير عن الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه لأن المحافظين تلكأوا في اتخاذ القرار.

لا تريد تيريزا ماي التوصل إلى بريكسيت سهل، ولا إلى بريكسيت صعب ولا لبريكسيت متعاطف، بل إنها تريد اتفاق خروج من بوتقة الاتحاد الأوروبي على طريقتها هي، حيث تحسم الفوز في الانتخابات العامة، وهو أمر شبه مضمون نظراً لحالة المعارضة، وتحقيق فوز يعطيها حق القول بأن أمور البلاد قد فوضت لها لتفعل ما تريد.

وتدخل الدعوة لإجراء انتخابات عامة مباشرة عقب طرح المادة 50 في إطار الخطوة غير المدروسة أو المتهكمة بالكامل، ولا أعتقد أن تيريزا ماي من النوع الذي يفتقر للذكاء. ومن السخرية أن يصدر عن مقر رئاسة الوزراء في داوننغ «تأكيد» مؤخراً، بأنه من غير المتوقع أن «يتم تأجيل» المحادثات مع بروكسل، وأنها ستتواصل كالمعتاد، في إعلان يرادف بواقعيته القول إن لعبة الشطرنج ستستمر كالمعتاد بينما إعصار متوقع سيعصف بالمكان الذي تجري فيه. وهنا يصبح تقبل التهكم ممكناً أكثر حين يكون سافراً إلى هذا الحدّ.

لقد وجد المحافظون أنفسهم هذا العام، مقيدين باقتتال داخلي متصل بالبريكسيت حال دون تمرير الحكومة تقريباً لأي تشريع يعالج المشكلات الخطيرة التي تتربص بالداخل البريطاني، كأزمة الإسكان، وقطاع الخدمات الصحية الوطنية ومسألة ركود الرواتب، وقد ذكرت هيئة طومسون رويترز أن عدد القوانين الجديدة التي طرحت على امتداد أشهر العام المنصرم بلغت الحدّ الأدنى لها منذ 20 عاماً.

من الواضح أن الحكومة المشتتة تشكل رديفاً للشلل الحكومي. فلماذا نضفي إلى مزيج الأزمة انتخابات عامة، ما لم يكن المقصود منها الإعداد للسيطرة إيديولوجياً على السلطة، في خطوةٍ تتمحور بشكل أساسي حول سياسات الأحزاب وتنأى بقوة عن شؤون البلاد التي تحكمها؟ ويكاد يتهيأ لنا بأن الخطوة كان مخططاً لها منذ البداية؟.

Email