ما بعد الشهادة الكاشفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

العبرة الأساسية من استقالة ريما خلف المدير التنفيذي للإسكوا، تكمن في الديباجة المطولة والحيثيات المبثوثة في رسالة الاستقالة إلى أنطونيو غوتيريس رئيسها المباشر، الأمين العام للأمم المتحدة، قبل أن تذيلها بقرارها الفارق الجريء.

كان بوسع ريما أن تكظم غيظها وغضبها، إزاء مطلب رئيسها بسحب تقريرها حول سياسة الأبارتيد الإسرائيلية، لمدة الأسبوعين المتبقيين لها على نهاية خدمتها في المنظمة الدولية.. غير أن مثل هذا التأجيل، على قصره، ربما كان من شأنه «تنفيس» مضمون الشهادة الحقيقية التي أرادت هذه السيدة رفيعة المقام، البوح بها بجرأة.

كثير من المسؤولين والمتنفذين الكبار على مختلف المستويات في عالمنا، يشربون حليب السباع، وتسعفهم الشجاعة بأثر رجعي، فيجلسون على كراسي الاعتراف بعد أن يغادروا وظائفهم ومواقع التأثير وصناعة الأحداث والقرارات.

لو أن ريما سارت على هذه الوتيرة الشائعة، لما كان لاستقالتها، المشفوعة بشهادة قوية حول ما يعتمل في أحشاء الأمم المتحدة، وقع البطولة وهالة التأثير وردود الأفعال التي أحاطت بها.

شهادة ريما، أو الحجر الذي ألقته في البركة الراكدة، أكدت بما لا يدع مجالاً للشك.. ما تتعرض له الأمم المتحدة وأمينها العام شخصياً من ضغوط وتهديدات، على يد دول من ذوات السيطرة والنفوذ، بسبب تقرير الإسكوا حول الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، ومسألة الأبارتيد.

وبالقياس على هذه الحالة أو النموذج، يصح تماماً الاعتقاد بأن الأمم المتحدة ليست منزهة عن أهواء القوى الرابضة على قمة النظام الدولي.

من هذه الشهادة، أدركنا يقينا، أن حكومات دول ذات هيمنة وتجبر، تضغط على الأمين العام، كي يكتم صوت الحق والعدل بشأن الكوارث والمظالم التي يمر بها أهل هذه المنطقة، وعرفنا أيضاً أن الأمين العام يتلقى على مدار الوقت توجيهات صارمة، حول ما ينبغي وما لا ينبغي للمنظمة الساهرة، جدلاً، على القانون الدولي أن تدلى فيه برأي.

«في فترة لا تتجاوز الشهرين، وجهت لي تعليمات بسحب تقريرين أصدرتهما الإسكوا، لا شوائب فيهما، وإنما لضغوطات سياسية مارستها دول مسؤولة عن انتهاكات صارخة لحقوق شعوب المنطقة، ولحقوق الإنسان عموماً».

صدقية ريما بخصوص سحب بعض التقارير الأممية وتخبئتها أو حبسها في الأدراج، لا تحتاج إلى براهين إضافية.. ففي غضون الشهرين المشار إليهما، انحنى غوتيرس للضغوط لأكثر من مرة. فهو نأى بنفسه عن قرار مجلس الأمن رقم 2334، الذي جرم الاستيطان في الأرض الفلسطينية المحتلة، لا سيما بمدينة القدس.

وتطوع بالقول إنه لا يشك في أن الهيكل اليهودي كان موجوداً هناك. ثم إن الأمين العام كرر الانحناء تارة أخرى، حين وافق على سحب ترشيح رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض كمبعوث أممي خاص إلى ليبيا، وذلك على الرغم من اعتقاده بأن فياض «كان يمثل الرجل المناسب في المكان والوقت المناسبين».

وفقاً لهذه المواقف، يبدو غوتيرس شخصية تفتقد إلى مناقبية مرؤوسته ريما خلف. ذلك أنه يتجاوز حدود المرونة والكياسة إلى حد قابلية الانكسار والطي، والتخلي عن المبادئ التي يفترض أن يحتكم إليها في الرحاب الدولية. ولأن الرجل ما زال في مستهل عهده المهني لدى الأمم المتحدة، فمن المرجح أن تواجه القضايا العربية، وفى طليعتها قضية فلسطين، شيئاً من العنت والتعثر.

هناك ما يشير إلى أن الإسرائيليين قد أخذوا علماً بهذا المستجد، حتى إن منهم من استبشر خيراً، واعتبر أن الأمم المتحدة تشهد وضعية نادرة من «النزاهة». وعندما يذهب هؤلاء الموسومون بأنهم الأكثر عصياناً للقوانين والشرائع السماوية والوضعية، والأقل استجابة للقرارات الأممية، إلى مثل هذا الاستنتاج، فعلينا أن نتحسس رؤوسنا ونتأبط شراً.

 

 

Email