ترامب والدولة العميقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحتل تطوير المفاهيم مكانة أساسية في العلوم الاجتماعية، مثل الاقتصاد والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وتكمن أهمية المفاهيم في مساعدة الباحث في تلمس طريقه لتفسير الظواهر الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية.

لقد جرت العادة أن ترحل مفاهيم العلوم الاجتماعية من الغرب إلى الشرق، والسبب لا يعود إلى تقدم الغرب في هذه المجالات فحسب، بل لأن الغرب ينظر إلى دول العالم الثالث، على أنها متخلفة، بحيث إن المفاهيم التي تطورت في الدراسات المتعلقة بالعالم النامي، لا تنطبق على الدول المتقدمة، ولكن بخصوص الموضوع الذي نحن بصدده، فإن العكس حصل، في انتقال مفهوم الدولة العميقة من الشرق الأوسط، وتركيا بالذات، إلى الحالة القائمة في الولايات المتحدة اليوم.

لقد تطور هذا المفهوم في سياق السياسة التركية، ويعرف بـ «درين دولت»، ويقول بهذا المفهوم عدد كثير من المراقبين والمحللين والمنشغلين بالسياسة، والذين يشيرون إلى بنية عميقة للدولة، تتمثل بشبكة من البيروقراطيين والمؤسسات الأمنية ومؤسسة الجيش، تمنع الأنظمة الحاكمة والمنتخبة من صنع سياسات تتعارض مع مصالح وتوجه الدولة العميقة.

وفي الحالة التركية، كثيراً ما يتردد هذا المفهوم بين اليساريين وغيرهم، والذين يصوبون اتهاماتهم نحو المؤسسات الأمينة والجيش، وحتى رجال القضاء، والذين يحولون دون تنفيذ برامجهم الانتخابية.

وبعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدا بعض مناصري ترامب بإلقاء التهم على الدولة العميقة، والتي تجنح نحو الديمقراطيين الليبراليين، للحيلولة دون تطبيق برنامج ترامب الانتخابي، وأن كثيراً من هؤلاء هم من بقايا نظام أوباما، أو ممن يدينون بالولاء للحزب الديمقراطي.

يقول الباحث حميد شهيد من معهد بروكنز الأميركي، إن هناك احتمالاً، نظرياً على الأقل، أن تتكالب المؤسسات الوطنية لمنع الرئيس الأميركي من اتخاذ إجراءات رعناء، ويستشهد الكاتب بمايكل هيدن مدير وكالة المخابرات المركزية السابق، أن القوات المسلحة لن تنفذ أوامر الرئيس إذا ما رأت أنها تتعارض مع المصالح العليا للبلاد.

يضيف شهيد إلى أن هناك شواهد تاريخية تشير إلى عرقلة الجيش لتنفيذ قرارات الرئيس، فهناك إمكانية التسويف، وهناك إمكانية المبالغة في الكلفة، لتثبيط عزم الساسة من اتخاذ قرار الحرب، كما أن بإمكانهم المراوغة والمماطلة لقتل فرص نجاح موافقة الكونغرس بالقرار.

والسؤال هنا، هل يمكن إطلاق مصطلح الدولة العميقة على هذه التكتيكات التي ممكن أن تتبعها المؤسسات عموماً في التأثير في القرارات السياسية سلباً أو إيجاباً؟.

أليس هذا جزءاً من اللعبة السياسية؟، إن مسألة الشد والجذب بين مؤسسات الدولة مسألة واقعية، وتحصل في كل البلدان المختلفة، وحسب طبيعة النظام السياسي.

في مقالة فريدة للنيويورك تايمز، الصحفية اليومية الأهم في الولايات المتحدة، تحدثت في مقالة بعنوان «مع تضاعف التسريبات، الخوف من الدولة العميقة»، عن التسريبات التي تظهر من البيت الأبيض، بغية تقويض الرئيس الأميركي ترامب، فمثلاً، ترى الصحيفة في التسريبات التي أودت بمستشار الأمن القومي مايكل فلين، أنها جاءت من قبيل الدولة العميقة، والتي تحاول إضعاف الرئيس المنتخب.

وترى الصحيفة الذائعة الصيت، أن الرئيس ترامب اختار المواجهة مع البيروقراطية ومع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ووزارة الخارجية، وقد حاول تهميش هذه الأجهزة، ما أدى إلى حالة عداء مستفحل بين البيت الأبيض وهذه الأجهزة المؤثرة.

ويرى البعض أن استخدام المفهوم في السياق الأميركي، فيه كثير من التعسف على مفهوم الدولة العميقة، فالخبراء الأتراك يرون أن تركيا شهدت عدة انقلابات عسكرية، انقض فيها الجنود على أدوات الدولة بشكل مباشر، وهذا ما لم ولن يحصل في السياق الأميركي، ولعل معارضة الأجهزة الحكومية سببها ترامب نفسه، بسبب أنه رئيس غير تقليدي، بمعنى أنه ينهج نهجاً مغايراً لما اعتادت عليه هذه المؤسسات.

يشير الخبراء في الشأن التركي، إلى إشكاليتين في إطلاق الدولة العميقة في ما يحصل في السياق التركي، وبين ما يحصل في الولايات المتحدة، النقطة الأولى تتعلق بتطبيق المفهوم بشكل غير دقيق، والذي يصف كل حركة من البيروقراطية غير منسجمة مع توجهات الرئاسة، بأنها فعلاً من أفعال الدولة العميقة، بينما يشير المفهوم إلى هياكل تعيش في الظلام، تقوض من توجهات الحكومة.

والنقطة الثانية تتعلق بأن المسيرة السياسية لتركيا في العقد الأخير، رسخت المصطلح في الرأي العام، ما أتاح للسلطات ممارسة القمع على نطاق واسع، بحجة اقتلاع الدولة العميقة.

هناك اعتقاد بأن اليمين الأميركي من أنصار الرئيس، مصابون بجنون الارتياب أو البارانويا، كما يقول كاتب في صحيفة الوول ستريت جورنال، والمفترض أنها الصحيفة الأكثر قرباً للرئيس، والاعتقاد بوجود حكومة خفية، هي ديماغوجية ليس إلا.

هذه هي التناقضات في واشنطن هذه الأيام، وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً.

 

 

Email