غاب المعلم فحضرت الفوضى

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصدّق جدًا ما قاله مدير عام المدارس الأهلية الخيرية حول مقطع الفيديو الذي انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر فيه طلاب يؤدون امتحاناً داخل صف دراسي بطريقة فوضوية دون وجود معلم يراقبهم، وأصدّق أنه مجرد امتحان تجريبي يتدرب عليه الطلبة استعداداً لامتحانات الفصل الدراسي الثاني التي لم تكن قد بدأت بعد عند تصوير مقطع الفيديو ونشره، وأصدق أنه لم تُحتسب عليه أية درجات للطالب، وأصدق أن الطلبة انتهزوا فرصة عدم وجود المعلم داخل الصف الدراسي فقام أحدهم بتصوير المقطع ونشره، الأمر الذي وصفه المدير بأنه يتنافى مع العادات والتقاليد والأدب.

وأثق أن المدير سيفي بوعده عندما تعهد بمعاقبة الطالب الذي قام باصطحاب الهاتف الخلوي داخل الصف وتصوير المشهد، وباتخاذ الإجراءات القانونية تجاه المعلم الذي كان غيابه سبباً في تلك الفوضى، التي لم تحدث نهائيا في تاريخ المدرسة، كما جاء في تصريح المدير لصحيفة «البيان» الأسبوع الماضي.

أصدّق كل ما جاء في تصريحات المدير الذي أراد أن يوضح موقف المدرسة، وأتفق مع بعض ما جاء في هذه التصريحات وأختلف مع بعضه، ولا أعرف نوع العقاب الذي ستتخذه المدرسة تجاه الطالب الذي قام بتصوير مقطع الفيديو ونشره، ولا شكل الإجراءات القانونية التي ستتخذها تجاه المعلم الذي كان غائباً.

ورغم هذا أرى أن القضية التي يجب أن نركز عليها ليست قيام الطالب بتصوير مشهد الفوضى التي عمت الصف بسبب غياب المعلم، ولا غياب المعلم الذي كان سبباً في هذه الفوضى كما ترى إدارة المدرسة، وإنما هي الفوضى نفسها التي يجب أن لا تحدث، حضر المعلم أو غاب، لأن وجود المعلم ليس شرطاً لالتزام الطلبة بالنظام، وغيابه ليس مبرراً لانتشار الفوضى التي تتنافى مع العادات والتقاليد والأدب.

في رأيي أن المسألة أكبر من ذلك بكثير، وأي عقاب سوف تتخذه إدارة المدرسة تجاه الطالب الذي قام بتصوير مقطع الفيديو ونشره لن يحل المشكلة، كما إن أي إجراءات قانونية سوف تتخذها تجاه المعلم الذي غاب عن الصف لن تمنع تكرار ما حدث في صفوف أخرى داخل المدرسة نفسها، أو في مدارس أخرى، سواء تم تصوير المشهد أم لم يتم تصويره، لأن المشكلة ليست في غياب المدرس، ولا في حمل الطالب لجهاز الهاتف الخلوي، وإنما في غياب التربية الأخلاقية الذي أدى إلى حدوث الفوضى عندما غاب المعلم.

وإن كانت المحاسبة ضرورية والعقاب واجباً، شريطة أن لا يكون عقاباً تقليدياً من النوع الذي اعتدنا رؤيته في المدارس، كالإنذار والفصل والحرمان، وإنما من نوع العقوبات التي أمر بتطبيقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، على الذين قاموا بحركات استعراضية خطرة بسيارتهم في منطقة «سيتي ووك» بدبي، والذين أقدموا على تعذيب قطة، ونشر مقطع فيديو التعذيب على مواقع التواصل الاجتماعي.

لا أحد يستطيع أن يلوم المدارس الأهلية الخيرية، فما حدث فيها يحدث مثله، وربما أكثر منه، في مدارس كثيرة.

والمسؤولية ليست مسؤولية المعلم أو الإدارة المدرسية وحدهما، وإنما هي مسؤولية المجتمع كله، وأول المسؤولين هو البيت الذي خرج منه الطالب، ودوره في غرس احترام المدرسة لدى هذا الطالب قبل أن يجتاز عتبة بيته متجها إلى مدرسته، ثم يأتي بعد ذلك دور الإدارة المدرسية في توفير البيئة التي تجعل الطالب يحترم الحرم المدرسي، ودور المعلم في فرض احترام الطالب للمكان الذي يتلقى فيه الآداب والعلوم التي لها الدور الأكبر في تكوين شخصيته، ورسم مستقبل حياته.

لو كان لي أن أتمنى لتمنيت أن أرى اليوم الذي تجري فيه الامتحانات دون مراقبين، لأن هذا يعني أن طلبتنا وصلوا إلى درجة من الأمانة تحول بينهم وبين اللجوء إلى الغش، وإلى مستوى من التربية الأخلاقية يحول بينهم وبين إحداث فوضى مثل تلك التي شاهدناها في الفيديو الذي أثار هذا الحديث، وإلى درجة من الإحساس بالمسؤولية لا تجعل من وجود المعلم في الصف شرطاً لفرض الانضباط الذي يجب أن يتحلى به الطلبة في حضور المعلم أو غيابه.

ولو كان لي أن أتمنى لتمنيت أن أرى كل طالب يصطحب معه هاتفه الخلوي داخل المدرسة، دونما خوف من أن يستخدمه استخداما يسيء إلى المدرسة التي يتعلم فيها، أو بطريقة تشغله عن الهدف الذي جاء إلى المدرسة من أجله، وهو التحصيل العلمي الذي يؤهله لبناء مستقبله، وليس الانشغال بالألعاب المخزنة في ذاكرة هاتفه، أو تصوير المقاطع التي تسيء لمدرسته وزملائه ومعلميه.

لتحقيق هذه الأمنيات وغيرها جاءت أوامر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بإدخال مادة «التربية الأخلاقية» ضمن مناهج وزارة التربية والتعليم، وتدريسها للأجيال التي نُعِدّها للمستقبل، كي تختفي من مدارسنا كل الممارسات المرفوضة التي يقدم عليها بعض الطلبة.

وكي يطمئن المعلمون إلى أن النظام سيسود الصفوف حتى لو غابوا عنها، وكي تطمئن إدارات المدارس إلى أن الهواتف الخلوية التي يحملها الطلبة ليست أسلحة يصورون بها المقاطع التي تسيء إلى مدارسهم ومعلميهم، وقبل ذلك إليهم أنفسهم.

وعندما يتحقق هذا نكون قد وصلنا إلى الغاية الأسمى التي نسعى جميعاً لتحقيقها، وهي أن تكون مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية بيئات حاضنة للتربية والتعليم معاً.

Email