المهاجرون بين الأوروبيين والأميركيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول بعض أصحاب الرؤوس الباردة إنه يمكن تفهم دعوات العداء والتطرف والتمييز ؛ الصادرة عن سياسيين أو زعماء شعبويين أوروبيين في إطار التعامل مع المهاجرين واللاجئين العرب والمسلمين إلى القارة العجوز.

لايبدي هؤلاء العقلاء أي تسامح مع هذه الدعوات ولا مع معتنقيها،هم فقط يدفعون بضرورة تقعيد هذه الظاهرة في سياقها التاريخي الاجتماعي الايديولوجي والسياسي، فالدول الأوروبية تأسست في الأصل على تمجيد الذوات القومية وما يتصل بها وينشأ عنها من مسافات، ويتعين الحفاظ عليها، مع عوالم الآخرين.

بناء على هذا الطرح وقياساً عليه، تبدو المداخلة الأميركية على خط النفور والتجهم تجاه المهاجرين واللاجئين العرب والمسلمين وإغلاق الأبواب دونهم، أمراً محيراً وغير مفهوم، ذلك لأن الولايات المتحدة لاتمثل مجتمعاً قومياً وطيد الأركان بالمفهوم الذي تعرفه دول القارة العجوز، وإنما هي في التحليل الأخير دولة مهاجرين ولاجئين ؛ أو كما وصفها الرئيس الراحل جون كينيدي «أمة من المهاجرين».

المسؤولون الأميركيون عموماً هم آخر من يصح لهم القدح في ذمم المهاجرين واللاجئين العرب والمسلمين والتأفف منهم، فبلادهم مارست غداة اكتشافها دور الملاذ الآمن للمطاردين والمضطهدين في الرحاب الأوروبية أو المطرودين منها،على خلفية المعارضة أو الاختلاف السياسي أو الفكري أو المذهبي الديني، كما أنها كانت أرض الأحلام ومعقد الآمال للباحثين عن الحريات وفرص الحياة الأفضل والارتقاء الاجتماعي والاقتصادي.

ثم إن الآباء المؤسسين، الذين تمكنوا من تحقيق مراداتهم وسعوا إلى التوسع فيها والمزيد منها، انبروا إلى استجلاب آخرين من كل حدب وصوب. وكانوا في ذلك أحياناً من القساة العتاة، تشهد بهذا سيرتهم مع عشرات الملايين من الأفارقة ؛ الذين لم يحصلوا على حقوقهم المدنية والسياسية الآدمية إلا بشق الأنفس.

القصد أن التناظر الفكري والحقوقي في فترات ميلاد المجتمع الأميركي إلى حين نهضته، أفضى الى إقامة دولة ذات أسس راسخة قوية، أضحت مضرب المثل في تحقيق الانسجام بين قدامى المهاجرين واللاجئين وبين الموجات التالية منهم، ولم يحدث خلال نصف القرن الفائت على أقل تقدير، أن طفت إلى السطح مخاوف صارخة على هذه الوضعية الداخلية، مثلما هو الحال راهناً منذ وصول إدارة الجمهوريين بزعامة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

إحدى المفارقات هنا أن تصريحات ترامب بشأن عدم الترحيب بالمهاجرين الجدد والتوعد بترحيل الملايين منهم من الولايات المتحدة، جاءت متزامنة لمواقف رموز أوروبية مثل ماري لوبان زعيمة الجبهة الوطنية الموسومة بالتطرف في فرنسا.

هذا التلاقي في الخطاب لايبشر بخير بالنسبة لمصير القيم والمثل الأميركية، وإذا كانت لوبان ومدرستها يتحركون انطلاقاً من تقاليد أوروبية قديمة وموروثة ؛ تتعلق جدلا بالبنى القومية، فإن موقف إدارة ترامب يبدو شاذاً نسبياً ومعاكساً للتقاليد الأميركية.

المجتمع الأميركي دأب على التعامل مع قضايا الهجرة واللجوء بعقلية أكثر انفتاحاً وتقبلاً للآخرين، كون الأميركيين جميعاً يقعون في التحليل الأخير تحت شعائر هذه القضايا وتواريخها، ولايشكلون مجتمعاً قومياً متجانساً على غرار المجتمع الفرنسي ومعظم المجتمعات الأوروبية، وعلى وجه التقريب، فإن كل عائلة أميركية لها امتدادات خارج الدولة، والمس بالمهاجرين واللاجئين والمضي نحو القطيعة معهم في الخارج، ربما تداعى الى توابع وردود أفعال سلبية تؤثر في الداخل الأميركي.

لقد أطل هذا المعنى في تعليقات بعض نشطاء الحقوق المدنية الأميركيين على قرارات إدارة ترامب «.. الخطة الجديدة لهذه الإدارة بخصوص الهجرة، سوف تدمر العائلات والمجتمعات المحلية، وستضر باقتصاد مختلف الولايات في طول البلاد وعرضها..».

وإذا كان الأوروبيون بكل نزعاتهم القومية المتجذرة بحاجة الى المهاجرين ؛ الذين لم تعد الاقتصادات الأوروبية تستقيم على طريق استمرارية النمو وحسن الأداء إلا بمساهماتهم في قطاعات بعينها، فكيف الحال مع الولايات المتحدة ؛ التي تشكل مجمعاً ضخماً للهجرة والمهاجرين، الأوائل منهم والأواخر؟!.

الشاهد أن مواقف إدارة ترامب وتكييفاتها إزاء الهجرة واللجوء، تمضي في اتجاه غير محمود العواقب بالنسبة للبنية الاجتماعية وللمثل السياسية والحقوقية المتأصلة في المجتمع الأميركي.. وهذا يثير الخيال حول كيفية معالجة هذا الخلل، وما إن كان خللاً طارئاً أم تجلياً لاتجاه سيجد طريقه إلى الاستمرارية والثبات ؟.

Email