بواعث وأخلاقيات الإبداع

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإبداع كلمة ذات رنين ساحر، يتطلع إليها الأفراد والمؤسسات والدول، وتتمحور حول تسخير نعمة العقل، من خلال معرفة صحيحة، لتحقيق أفضل ما يمكن في أي مجال، وترتبط بالاجتهاد والتفكير والاستفادة من المعارف المكتسبة والخبرات المتراكمة وتجارب الحياة والواقع والتنافس الأمثل في سباق العلوم المستجدة، لتحقيق الخير والتنمية والارتقاء في المجالات المتعددة وعلاج المشكلات وتجاوزها.

والإبداع من وجهة نظري هو اختيار أو ابتكار الأنفع والأصلح لكل حالة وظرف، والتطابق الأكمل بين الإجراء المتبع والهدف المنشود، وكلمة الأنفع والأصلح والأكمل كلها مفردات تدل على أن الإبداع رقي وصعود في درجات التفكير والعلم والنظر درجة بعد أخرى، للوصول إلى السقف الإيجابي الأعلى في المجال المنظور في وقته وظرفه، سواء كان ذلك بالابتكار والخروج عن نطاق المألوف للإتيان بالجديد الأفيد، أو بإحياء وتجديد وتطوير القديم الأصلح من تجارب وخبرات الحياة والواقع، وفي الحديث النبوي:

«أحب الناس إلى الله أنفعهم»، والقرآن يحض الإنسان على النظر في السماوات والأرض، وتسخير الموجودات في تحقيق المصالح، واستخدام نعمة العقل في وجوه الخير والمنافع، والعمل بالذي هو أحسن، لعمارة الأرض، وبناء الحضارة الراقية، وتحقيق النهضة الرائدة، وتحصيل السعادة الدنيوية والأخروية.

ومن أهم وسائل الإبداع: التفكير الاستراتيجي، الذي من سماته التصور الصحيح والتشخيص السليم للقضية المبحوث فيها، وقديماً قال العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وذلك يقتضي النظر والتأمل، والأناة والتمهل، لمعرفة الموضوع معرفة تفصيلية تامة، ودراسته دراسة جامعة من كل جوانبه، وعدم التعجل والسطحية والاكتفاء بالنظرة القاصرة العابرة، فإن ذلك يورث معرفة ناقصة، وما بُني على ناقص فهو ناقص، ومن سمات التفكير الاستراتيجي أيضاً النظرة الاستشرافية ودراسة المآلات المستقبلية، والتوقف عند السؤال الآتي: ما هي نتائج هذا الحل أو هذا الفعل على المدى القريب والبعيد؟

ومن أهمل النظر في العواقب لم يصب سهمه النجاح الحقيقي، وربما تذوق في أول الأمر حلاوة نجاح زائف سرعان ما ينقضي، ليحل محله مرارة العواقب السلبية والتهديدات المستقبلية، التي لم يحسب لها حساباً، كما أن التفكير الاستراتيجي يستند إلى النظرة العلمية الموضوعية، دون إغراق في العواطف والمثاليات، ودون رضوخ لتحديات الواقع والاستسلام لها.

والإبداع مرتبط كل الارتباط بالقيم الأخلاقية، فالإبداع والأخلاق صنوان، لا يفترق أحدهما عن الآخر، لئلا تتحول الثقة بالنفس والمواهب لدى المبدع إلى غرور وتعجل وتسرع ونظرة ضيقة.

والتنافس إلى أنانية وتكبر وحسد وعدم احترام للزملاء وعدم استفادة من أهل التخصص، ولئلا ينجرف بإبداعه، بسبب انحراف أخلاقي إلى متاهات الإجرام والإرهاب وما يضر بالشعوب والأوطان، فإن هذه الأدواء تقتل الإبداع وتميته، والمبدع الحقيقي يتحلى بالتواضع مع الناس أجمعين، فيستفيد ممن هو أعلى منه، ويتبادل المعرفة مع من هو مثله، ويجود بعلمه على من هو دونه ويحب له اللحاق بركب المبدعين، ولا يتضايق من النقد.

ولا يستنكف من أن يقبل حقاً من أي أحد كائن، ويعترف بخطئه دون مراوغة ولا مناورة، ويوقن بأن العلم بحر زاخر، بل محيط هائل، وأن ما حصَّله قليل من كثير، وأنه إذا بلغ قمة فأمامه قمم كثيرة، فلا يزال بذلك ينمي مواهبه ويصقلها، ولا يمر عليه يوم إلا وقد تعلم جديداً يضيف إلى رصيده، كما أنه يضع نصب عينيه تسخير إبداعاته في أبواب الخير، وما يحقق السعادة للناس ويحفظ لهم مصالحهم وأوطانهم.

والإبداع الحقيقي منظومة حياة، ومن سمات المجتمع الراقي أن يصير الإبداع جزءاً من حياة أفراده وممارساتهم اليومية، ويصير التعامل مع النفس ومع الناس عمليات إبداعية، يتم فيها اختيار أحسن الأفكار والكلمات والمواقف والأفعال، والقرآن الكريم يحثنا على ذلك، قال سبحانه:

{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}، وتأمل كلمة (أحسن) التي تعكس الروح الإبداعية في اختيار الكلمات عند التخاطب، قال الحسن البصري: «أي: لا يقول له مثل قوله، ولكن يقول له: يرحمك الله، يغفر الله لك»، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في ما صح عنه استنباطاً من هذه الآية:

«لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، لقلت: وفيك»، وفي الحديث النبوي: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»، فجاءت كلمة (أحسن) بصيغة التفضيل، فكيف نبدع في اختيار أحسن الكلمات في مخاطبة الناس، وكيف نكون مبدعين في أخلاقنا وسلوكنا، وهكذا في سائر أمور الحياة.

ومما ننوه عليه بأن كثيراً من الأبناء الصغار هم طاقات إبداعية كامنة، وقد لا يتهيأ لبعضهم في مبدأ الأمر فرص التعبير عن إبداعاتهم لظروف وموانع، وقد تظن بهم الأسرة والمدرسة سوءا، وتعتقد أنهم كسالى لا يفهمون ولا يدرسون، ومشاغبون لا يهدأون ولا يحترمون.

بينما الأمر في الحقيقة مختلف، وهي أنه لم يُتبع معهم الوسائل المثلى لاستخراج إبداعاتهم الدراسية والسلوكية واحتضانها، ومن أهمها التحفيز والتشجيع وبعث روح التفاؤل والأمل والإيجابية لديهم، وزرع الثقة في نفوسهم، ومتابعتهم باستمرار، ودعمهم بكلمات الثناء

وعدم الإفراط في اللوم والعتاب، وعدم ترسيخ فكرة الفشل في رؤوسهم، وتوهيمهم بأنهم لا يصلحون، واتباع أسلوب العطاء والحرمان عبر الجوائز المعنوية والمادية بحكمة واستغلال لما يحبه الطفل ويشتهيه، فقد تغير جائزة صغيرة وكلمات مدح وأمل مستقبل طفل، ويصبح مبدعاً، وكأنه وُلد من جديد.

 

Email