إسرائيل والشرط التفاوضي التعجيزي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يطلب المفاوضون الإسرائيليون فى مدريد ثم فى أوسلو، قبل ربع قرن، من الفلسطينيين الاعتراف بدولتهم كونها دولة يهودية، فالمؤكد أنهم وحلفاءهم أضافوا هذا المطلب لاحقاً، على سبيل البحث عن عوائق وتعقيدات يدركون أنها ستفضى حتماً إلى وقف قطار التسوية الفلسطينية، وبالنظر إلى الإصرار المستمر على ضرورة الانصياع له، فقد أصبح واحداً من شروط التفاوض الإسرائيلي وثوابته.

استماتة الإسرائيليين على نوعية الاعتراف الفلسطيني بدولتهم وتوصيفها يبدو غريباً ومثيراً إلى أبعد التصورات، لم يحدث لهذا الشرط أن طرح على أية دولة أو جهة بين يدى قضية الاعتراف بإسرائيل، وكل الدول التي اعترفت بإسرائيل، بما فيها الدول الغربية على جانبي الأطلسي؛ الراعية لها منذ كانت مجرد فكرة، لم تدرج فى وثائقها ذات الصلة مسمى الدولة اليهودية.

قد يقال: إن التحول إلى هذا المسمى لم يراود العقل الأيديولوجي والسياسي الإسرائيلي إلا منذ بضعة أعوام، لكن خطأ هذا التقدير يتجلى عند النظر فى كثير من الرموز الشهيرة فى إسرائيل منذ نشأتها، فإعلان الاستقلال وإيحاءات العلم والعملة والنشيد الوطني والأسماء التي أطلقت على المدن والقرى والميادين والشوارع ومحتويات المناهج الدراسية للناشئين ومكانة الحاخامات، موسومة جميعها بالدلالات اليهودية، ومع ذلك، فإن أحداً لم يلحظ فى أي وقت وجود رغبة إسرائيلية في استدراك ما فاتها جدلاً، عبر مطالبة المعترفين بها بتجديد اعترافهم، وفق مسماها الذي سقط سهواً، أي كونها دولة يهودية.

مؤدى هذا أن الإسرائيليين لا يستشعرون نقيصة الاعتراف بدولتهم بصفتها اليهودية، إلا مع الجانب الفلسطيني بشكل استثنائي، هذه مفارقة مثيرة للتأمل.

الوجه الثاني لهذه المفارقة، أن الفلسطينيين هم آخر من يصح التفكير فى تجاوبهم مع مطلب من هذا القبيل، هذا ليس فقط لأنه يهيل التراب كلياً على روايتهم للتاريخ الحقيقي لعلاقتهم بفلسطين وعلاقة اليهود واليهودية بها، وإنما لأنه يؤدي أيضاً إلى التنكر، بالمعن الحقوقي والأخلاقي، لذلك الجزء من أرومتهم القومية والوطنية، الذي قدر لإسرائيل السيطرة عليه فى سياق باكورة أحداث نكبتهم الكبرى عام 1948، فالمصادقة الفلسطينية على يهودية إسرائيل، تعنى خطياً المصادقة على التمييز المقونن الذي سيطال فلسطينيي 1948 داخل ما يعرف بالخط الأخضر.

إلى ذلك، فإنه إذا ما انتهت قضية التسوية ببقاء بعض المستوطنات؛ التي أستزرعها الإسرائيليون فى الأراضي المحتلة منذ 1967 تحت سيادتهم، فإن مفهوم إسرائيل اليهودية سوف يستطرد تلقائياً إليها، وفى التحليل الأخير، سيكون الاعتراف الفلسطيني بهذا المفهوم بمثابة إعلان براءة لهذا الاستطراد، وستمسي الأراضي المستولى عليها بقوة الاحتلال أراضي ذات هوية يهودية، تماماً كما هو المراد لفلسطين المحتلة منذ 1948.

على الرغم من المطلب الإسرائيلي وغرابته بالنسبة لعالم يرفض المفهوم الديني الصرف لقيام الدول وقعودها، فقد أظهر الفلسطينيون رد فعل بالغ العقلانية وحسن التصرف، فلقد رفضوا كلياً التعاطي مع هذا المطلب، وقرنوا هذا الموقف بإعلام الكافة عن الطريق المستقيم؛ الذي يتعين على إسرائيل سلوكه إذا ما أرادت لمسماها المرور والتدويل، ألا وهو إمكانية عرض الأمر على الأمم المتحدة، باعتبارها الجهة المنوط بها استقبال التعريفات الرسمية للدول ومسمياتها، وتودع لديها وثائق الاعتراف المتبادل ببعضها البعض، هذا علاوة على كونها الجهة التي قامت دولة إسرائيل وفقاً لقرار جمعيتها العامة رقم 181 لعام 1947.

أغلب الظن أن الإسرائيليين لن يقتنعوا بهذا الحل، لأنهم يدركون مدى التعقيدات التي تحيط بخطوة من هذا القبيل، والشكوك التي سوف تنتاب دول المنظمة الدولية إزاء تعريف يخالف مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية الخالي من الأبعاد العنصرية والتمييزية، ثم إن هذه الدول سوف تدرك، بعد التدبر فى المطلب الإسرائيلي، كيف أنه يجافى متن القرار 181 وروحه.

لقد نسى الإسرائيليون أن هذا القرار تضمن ضرورة صيانة الحقوق الديمقراطية لغير اليهود؛ الذين سيقعون فى المساحة التي تم استقطاعها للجانب الصهيوني، وليس هؤلاء الأخيرين إلا العرب الفلسطينيين، الذين بلغوا الآن زهاء 20% من مواطني الاحتلال الإسرائيلي، والشاهد عموماً أن إسرائيل تطلب المستحيل؛ الذي يجعل التسوية بدورها عملية مستحيلة التحقق، وهذا عندها راهناً وحتى إشعار آخر هو غاية المراد.

Email