إبراء الذمة أميركياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان من الطبيعي أن ينظر الكثيرون إلى الموقف الأميركي الذي سمح بتمرير قرار مجلس الأمن ضد الاستيطان الإسرائيلي، على أنه مجرد "إبراء ذمة" من إدارة أوباما بعد ثماني سنوات من الفشل أو الإخفاق في التعامل مع القضية الفلسطينية ومجمل القضايا العربية.

فالقرار يأتي قبل بضعة أسابيع من تسلم السلطة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، ويفتقر إلى أدوات التنفيذ أو إجراءات إجبار إسرائيل على الخضوع له!

لهذا كان لافتاً هذا الهوس الذي أصاب رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتانياهو وحكومته مع صدور القرار. كما كان لافتاً تركيزه على الموقف الأميركي الذي امتنع عن التصويت على القرار، بينما لم يمس موقف الدول الغربية الكبرى التي أيدت القرار، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا، وبالطبع لم يقترب من موقف كل من روسيا والصين.. ربما إدراكاً بأن المتغير الوحيد المهم في الموقف هو ما جاء من واشنطن، أما الباقون فموقفهم ثابت ومعروف من هذه القضية.

كانت حالة الهوس التي أبداها نتانياهو وعصابته، تبدو مبالغاً فيها. وربما كانت حكومة تل أبيب تتصور أن موقف دونالد ترامب حتى وهو ما زال خارج البيت الأبيض، سيمنع إدارة أوباما من اتخاذ موقف يسمح بتمرير قرار مجلس الأمن، خاصة بعد أن أظهر ترامب الخلاف مع أوباما، وأعلن تأييده لنتانياهو ومعارضته لمشروع القرار.

وكانت حالة نتانياهو هو وعصابته تبدو مبالغاً فيها، حتى مع إفساح قرار مجلس الأمن الجديد المجال أمام لجوء الفلسطينيين للمحكمة الجنائية الدولية ومقاضاة المسؤولين الإسرائيليين على جرائم بناء المستوطنات.. فالقرار الجديد سيضاف إلى قرارات قديمة، وإلى حكم محكمة العدل الدولية، وكلها لم تنفذ ولم توقف جرائم الاحتلال الإسرائيلي.

الآن.. تبدو حالة الهوس الإسرائيلي قابلة للتفسير، بعد الخطاب المهم الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الأربعاء الماضي، حول القضية، فلأكثر من ساعة وقف جون كيري يشرح موقف بلاده من قضية الاستيطان ووجه الصفعات لحكومة نتانياهو التي وصفها بأنها أكثر الحكومات الإسرائيلية يمينية ودعماً للاستيطان، محذراً من أن التوسع الاستيطاني يهدد مستقبل إسرائيل ويقوض السلام وينهي حل الدولتين، ليكون البديل - كما قال - هو الدولة الواحدة والاحتلال الأبدي.

وكان طبيعياً أن يتكرر - على الجانب الآخر - مشهد الهوس الصهيوني، وأن يسارع نتانياهو بالهجوم على أوباما وكيري، وأن يصف الموقف الأميركي بأنه منحاز، وأن يقول - والبؤس المفارقة - إن كيري تعامل مع المستوطنات بشكل مهووس!

وفي الوقت نفسه كان دونالد ترامب يصرخ على تويتر مطالباً إسرائيل بالصمود، ومطمئناً نتانياهو بأن 20 يناير سيصل قريباً! في الإشارة إلى موعد تسلمه السلطة من الرئيس أوباما.

خطاب جون كيري الاستثنائي يقول: إن الموقف الأميركي بشأن قرار مجلس الأمن لم يكن مجرد إبراء ذمة بعد ثماني سنوات عجاف في التعامل مع القضية المركزية في العالم العربي والشرق الأوسط، وأن الأمر يتعدى تسجيل المقترحات الأميركية للتعامل مع القضية الفلسطينية، التي سبق تقديمها من جانب كيري، والتباحث حولها مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي دون نتيجة، بسبب ما جاء في خطاب كيري من أن نتانياهو يقود أكثر الحكومات يمينية ودعماً للاستيطان في تاريخ الكيان الصهيوني.

قد يكون خطاب كيري موجهاً للرأي العام الإسرائيلي لكي يعرف إلى أين يقوده نتانياهو، وقد يكون موجهاً للرأي العام الأميركي لمواجهة الدعايات الإسرائيلية وتحركات اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأميركية، وقد يكون رسالة للحلفاء الغربيين قبل مؤتمر باريس أو للحلفاء العرب بعد خيبات الأمر العديدة من سياسة أوباما.

لكنني أعتقد أن الأمر أخطر من ذلك، وأن ما يفعله أوباما وإدارته هو محاولة لتلافي كارثة قد يقود دونالد ترامب أميركا إليها.

إن اختيار ترامب قيادات إدارته الجديدة من اليمين المتعصب. ووضع ملف القضية الفلسطينية في يد زوج ابنته اليهودي، وإرسال سفير جديد لإسرائيل من غلاة المؤيدين للاستيطان.. كل ذلك يعني أن تصريحات ترامب المؤيدة لإسرائيل والمتعصبة ضد الإسلام والمسلمين العرب، لم تكن مجرد تصريحات للانتخابات.. بل برنامج للحكم.

ومن المؤكد أن تحركات الإدارة الأميركية في الأسابيع الأخيرة ليست اجتهاداً فردياً من أوباما وكيري، وإنما هي نتيجة تقدير موقف من جانب الأجهزة السياسية والاستخباراتية الأميركية التي تدرك حجم الخطر (على المصالح الأميركية أساساً) إذا نفذ ترامب سياساته المعلنة بنقل سفارته في إسرائيل إلى القدس.

وإعلان الاعتراف الأميركي بها عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، ليفتتح أبواب الجحيم في المنطقة، ويحيل كل الصراعات السياسية في المنطقة إلى صراعات دينية لن تنجو منها دولة في العالم، ويعطي لقوى الإرهاب كل الأسباب لتنقل ما سبق أن أسمته أميركا "الفوضى الخلاقة" إلى العالم بأسره!

موقف إدارة أوباما من إسرائيل وقضية الاستيطان ليس من أجل سواد عيون الفلسطينيين أو العرب، ولا من أجل إبراء الذمة عن أخطاء الماضي، إنه إنذار بأن "أكثر الحكومات اليمنية في إسرائيل" كما وصف كيري حكومة نتانياهو سترافقها أكثر الحكومات يمينية في أميركا مع ترامب وأن على العالم أن يتحرك قبل الكارثة.

وعذراً.. إذا لم أتحدث عن الدور العربي حتى لا أفتح أبواباً للمزيد من الأحزان، ونحن نستقبل عاماً جديداً، نرجو رغم كل التحديات أن يأتي بما هو أفضل!

Email