لماذا نحتفل بقدوم عام جديد؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

أظن أن فيلسوفنا الراحل الدكتور زكي نجيب محمود، هو الذي تساءل مرة: لماذا نحتفل بانتهاء عام وقدوم عام جديد، مع أن هذا معناه انقضاء عام من عمر الإنسان، والمفروض أن يأسف المرء لذلك بدلاً من أن يحتفل به؟

والتساؤل وجيه، ولكن من الممكن الإجابة عنه بعدة إجابات، إحدى هذه الإجابات، الرغبة في تجديد الأمل في أن يكون المستقبل أفضل من الماضي، وأن تتحقق في العام الجديد آمال لم تتحقق قبل ذلك.

هناك أيضاً ارتباط بداية العام الجديد بذكري حدث معين يراد تمجيده، كهجرة الرسول العربي أو مولد المسيح، أو حتى ذكرى قيام ثورة يعتقد من قام بها أنها عمل مجيد يستحق تخليد الذكر، أو انتصار عربي كالعبور أو حلول شهر مبارك من جديد كرمضان..إلخ. ولكن هناك تفسيراً آخر مهماً، ففي كل مجتمع، مهما كان ثراؤه، يوجد عدد كبير من الناس أفقر من غيرهم بكثير.

ولا يستطيعون تلبية بعض حاجاتهم الأساسية طوال العام، فينتهزون فرصة الاحتفال بمرور عام على مناسبة معينة لتلبية هذه الحاجات التي اضطروا إلى تأجيلها، فيحولون المناسبة إلى شبه مهرجان استهلاكي، يشبعون فيه حاجاتهم المؤجلة.

هناك أيضاً التعبير عن السرور بأن الأولاد والبنات قد كبروا وزاد عمرهم عاماً، والأمل في أن يعيشوا ويكبروا. ولكني لاحظت أن عادة الاحتفال بحلول عام جديد، لم تكن موجودة دائماً، أو لم تكن بنفس القوة، إنني عندما أتذكر جيل أبي وأمي، أتذكر أن هذا الاحتفال لم يكن له شأن كبير في نظرهما، لا بمرور عام على مناسبة بعينها، ولا بعيد ميلاد هذا الابن أو البنت، ناهيك عن عيد ميلاد الأب أو الأم، اللذين قد لا يعرف أحدهما (مثلما كانت الحال مع أمي) تاريخ ميلادها ولا يعرف الآخر كما كانت الحال مع أبي تاريخ ميلاده بالضبط..

بل جرى «تسنينه» (أي تقدير سنه بالتقريب) بمناسبة تخرجه أو تعيينه في وظيفة لأول مرة. لماذا هذا الفارق يا ترى؟ هل لأن جيل أبي وأمي، والأجيال السابقة عليهما، كانت أقل ولعاً بالعد والحساب؟ ربما، ولكن من المؤكد أن من الأسباب قوة الشعور الديني ثم ميله للضعف في الأجيال الأحدث، إذ يظهر أن الأجيال السابقة كانت تعتبر الغرام بالاحتفال بالأعياد، القومية أو الشخصية، نوعاً من الوثنية التي تتنافى مع قوة الإيمان بالله.

ثم حدث بعد هذا ما هو أخطر من مجرد الاحتفال بقدوم عام جديد، فقد خطر للبعض أن ينتهز فرصة الاحتفال بالأعياد، ليحولها إلى مناسبة للبيع والشراء وتحقيق الربح، نحن نعرف كيف تحول الاحتفال بالكريسماس إلى مثل هذه المناسبة، فتزينت المحلات التجارية لهذا الغرض، واعتبر أن من أهم مراسم الاحتفال شراء شجرة وتزيينها.

وتبادل الهدايا من حولها، وتغليف الهدايا بالورق الملون ومحاولة إخفاء محتواها، وشاع ذلك حتى قدر ما ينفق على هذه الهدايا في كل عام، في الدول الغنية، بالبلايين من الدولارات (مع الاعتراف بأن معظم الهدايا لا تشبع حاجة حقيقية).

وانتقلت العادة بالضرورة إلى البلاد التي تعتبر تقليد أهل البلاد الغنية علامة التحضر والتقدم، فاعتبر كثير من أهل البلاد المسلمة أنه من غير الجائز أن تمر أعياد الكريسماس دون أن يحتفلوا هم أيضاً بها، ورحب التجار بذلك طبعاً وشجعوه.

كما لم يجدوا مانعاً من تحويل المناسبات الإسلامية أيضاً، كقدوم شهر رمضان وانتهائه، إلى مناسبات أيضاً للبيع والشراء، وتحويل فانوس رمضان إلى سلعة تجلب الربح بعد أن كان أصلاً مجرد لعبة يلهو بها الأطفال ولا ثمن لها.

كانت سنوات إقامتي بإنجلترا بسبب البعثة الدراسية، فيما بين أواخر الخمسينات من القرن الماضي، ومنتصف الستينات (58 ـ 1964)، هي سنوات تعتبر الآن بداية للمجتمع الاستهلاكي في الغرب، وقد سبق الاقتصادي الأميركي الشهير جون كينيث جالبريث (j.k. Galbreth) بالتنبؤ بذلك في كتابه «مجتمع الوفرة» (The Affluent Sociiety) (1958).

لقد ظلت الدول الأوروبية ما يقرب من عشر سنوات (45 ـ 1955) تعيد بناء ما دمرته الحرب، وطوال هذه الفترة استمر التقشف بدرجة أو أخرى، بل استمر توزيع بعض السلع بالبطاقات التموينية امتداداً للنظام المتبع في سنوات الحرب، كان شراء كل شيء كالشيكولاتة، بل وحتى شراء بعض أنواع الفواكه، يعتبر شيئاً كمالياً لا يجوز في ظروف الحرب، ثم انقشعت السحب شيئاً فشيئاً في النصف الثاني من الخمسينات، وبدأت بوادر المجتمع الاستهلاكي.

حيث تحول الاستهلاك بالتدريج إلى شيء ليس فقط جائزاً ومقبولاً، بل إلى شيء يجري تشجيعه بصرف النظر عن الغرض المباشر منه، أذكر أن رئيس وزراء بريطانيا في أوائل الستينات (هارولد ماكميلان) أطلق عبارة مشهورة اتخذت عنواناً لهذا التطور في المجتمع الإنجليزي وهي «إنكم، أي الإنجليز، لم تشهدوا من قبل أبداً عصراً طيباً مثل العصر الحالي»، كانت معدلات نمو الناتج القومي قد فاقت أي معدلات سابقة.

وانخفضت البطالة إلى حدها الأدنى، وكان مثل هذا يتكرر في البلاد الأوروبية الأخرى وفي الولايات المتحدة، كان من الطبيعي إذن أن يتحول المجتمع في هذه الظروف إلي «مجتمع استهلاكي»، حيث يصبح الاستهلاك مصدراً للربح الوفير.

وكذلك دليل على النجاح في الحياة، وأن تضاف أعياد جديدة لتشجيع هذا الاستهلاك، فأضيف عيد الأم وعيد الحب.. الخ، ولا شك في أنه ما زال في جعبة التجار أعياد أخرى قادمة. وأياً كان الأمر، فكل عام وأنتم بخير.

 

Email