أزمة الديمقراطية في الشرق الأوسط

ت + ت - الحجم الطبيعي

تزداد القناعة تدريجياً بأن هناك إشكالات لدى شعوب منطقة الشرق الأوسط في تقبل المبادئ الديمقراطية على الرغم من أن التركيبة المجتمعية بتنوعها الأثني والديني والطائفي والثقافي لأغلب هذه الشعوب تجعل من النظام الديمقراطي ضرورة ملحة وليس خياراً مترفاً.

بدأ تفكيك الأنظمة الشمولية في المنطقة والحديث عن الأخذ بالديمقراطية كخيار لنظام الحكم منذ سقوط النظام العراقي السابق وتعزز هذا النهج لاحقاً مع اندلاع ثورات الربيع العربي إلا أن التجربة التي تمخضت عن هذه الأحداث ليست مشجعة.

الثورة ليست مجرد تغيير في علاقات الإنتاج الاقتصادية كما تفسرها بعض الفلسفات السياسية وليست قلب نظام حكم وإبداله بنظام آخر بل إزالة العوائق التي تقف أمام إجراء إصلاحات حقيقية في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لصالح الشعوب وبما ينسجم مع روح العصر ونكهته.

فما حدث في بعض الدول العربية تحت مسمى الثورات ليست في الحقيقة كذلك فلم يحدث أن غادرت هذه الدول ماضيها بل عادت إليه لأنها لم تتمكن من جعل أدوات الحاضر في الحكم بديلاً عن أدوات الماضي إلا من الناحية الشكلية.

فالتعددية التي نشهدها في بعض هذه الدول ليست في جوهرها تعبيراً عن نظام ديمقراطي حقيقي قدر ما هي مظهر شكلي صنعته أدوات وأساليب غير ديمقراطية للتأثير على الناخب أو استخدام المال السياسي في توجيه إرادته أو استخدام الميليشيات للتأثير على سير العمليات الانتخابية بالتهديد والترهيب أو غير ذلك الكثير مما هو موجود فعلاً في عالم الشرق الأوسط من الأساليب التي تضفي صفة الشرعية على النظام الحاكم.

لم تكن الديمقراطية هاجساً حقيقياً في الحياة اليومية للإنسان في الشرق الأوسط وهو المثقل بهموم من أنواع أخرى فهي لم تكن ضمن الأولويات بالنسبة لمجتمعات هذه البلدان.

النقاشات الموسعة حول الديمقراطية تدور في أغلب الأحيان لمجرد الاستهلاك الإعلامي ولا تلقى تفهماً وجدية إلا في أوساط النخب الثقافية التي تدرك تماماً حجم الإعاقات التي تقف أمام تنفيذ برنامج ديمقراطي حقيقي في بيئة لا تقف التفسيرات المختلفة للموروثات الثقافية فيها موقفاً ودياً من قيم الغرب وممارساته الثقافية وأسلوب حياته.

وفي مقدمتها الديمقراطية التي تلغي سلطات المرجعيات التقليدية المتنفذة في المجتمع بما تلتزم به من شفافية وتعددية وقبول الرأي الآخر وتنشيط الحوارات السلمية والسماح لمنظمات المجتمع المدني العمل بحرية وضمان حقوق المرأة وحقوق الطفل وتلبية حقوق الأقليات العرقية والدينية والثقافية ومبدأ المواطنة والمساواة وتبعية الجميع لحكم القانون والتنسيق مع الأسرة الدولية في القضايا الإقليمية والدولية.

قد لا تكون الديمقراطية على النمط الغربي هي الحل الأفضل لأنظمة الحكم في بلدان معقدة للغاية لم تنضج فيها الظروف الموضوعية المناسبة لذلك، فلكل مجتمع هناك نظام خاص أنجح من غيره في الحكم في مرحلة معينة من تأريخه وهو النظام الذي يضمن وحدته وسلمه المجتمعي واستقلال مواقفه وسياساته.

فإشاعة الروح والممارسات الليبرالية التي صاحبت عملية تفكيك الأنظمة الشمولية قد أدت إلى إضعاف سلطة الدولة وهيبتها وفاقمت من خطورة حالة اللا تماسك الاجتماعي التي أصبحت خطراً يهدد الدولة نفسها بالتفكك.

يُتهم المثقف في هذه البلدان بالسلبية وبأنه يتحمل بعض المسؤولية عن مراوحة هذه المجتمعات في أماكنها فهو لم يسهم بما يكفي بتهيئة البنية الفكرية الواعية التي تتقبل التغيير بروح إيجابية لبناء مقومات الدولة المدنية تاركاً الأحزاب تقودها نخب ثقافية ليس لديها برامج قدر ما لديها من طموح للسيطرة على الحكم والانتفاع بميزات ذلك.

ولكن الواقع غير ذلك فالمثقف نفسه يغمره شعور بالإحباط ويعاني من العزلة الفكرية في هذه المجتمعات وربما يفتقد الأمان على حياته كذلك وكلما توسعت آفاق تفكيره وتعمقت رؤاه زادت الهوة التي تفصله عن مجتمعه اتساعاً. فهناك قوى اجتماعية وسياسية جاهزة لتوحيد مواقفها وتوظيف نفوذها لإعاقة الجهود الهادفة لبناء أنظمة ديمقراطية حقيقية.

 

Email