وفاة قائد شرطة

ت + ت - الحجم الطبيعي

«عندما يتوفى قائد الشرطة، ويحزن الشعب بهذه الطريقة، فاعلم تماماً أنك تعيش في بلاد يسودها الأمان والعدل، ويحكمها القانون».

عبارة تداولها الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي يوم الجمعة الماضي، عندما فجعنا بوفاة الفريق خميس مطر المزينة، رحمه الله، فوقع الخبر على أبناء دولة الإمارات والمقيمين فيها كالصاعقة، وعم البلاد الحزن، وتناقل الجميع مآثر الفقيد، واستذكروا ما قدمه من خدمات ستبقى خالدة في ذاكرة الوطن، بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ووُري جثمانه الثرى.

صورة قادة الشرطة في الخيال الإنساني، والعربي على وجه الخصوص، عادة ما ترتبط في أذهان العامة بالبطش والظلم. نلمس هذا في كتب التراث والروايات التي تفننت في وصف ممارسات الشرطة، والأساليب التي يستخدمونها في التعامل مع البشر.

ومن أمثلة ذلك قصة «دليلة والزيبق» الشهيرة، التي تدور أحداثها بين مصر وبغداد، وتحكي قصة فساد كبيرة، يشترك فيها كل أطراف السلطة، ابتداءً من الحاكم وانتهاءً بالعسكر والعسس، فالكل في دائرة الفساد مشترك، حيث يقوم الوالي بوضع المقدم «سنقر الكلبي» مسؤولاً عن حفظ الأمن، تجنباً لفساده وسرقته.

فيجعله على رأس جهاز الشرطة ليضمن أنه لن يسرق إلا بإشرافه وتحت رعايته، حتى يأتي «علي الزيبق» ليخلص الناس من الظلم والطغيان، وينتقم لوالده الشريف المقدم «حسن رأس الغول»، الذي تعاون المقدم «الكلبي» والمحتالة «دليلة» كي يتخلصا منه.

هذه الصورة النمطية التي رسخت في أذهان الناس عن الشرطة من التراث الإنساني، تؤيدها صور كثيرة من العصر الحديث، بعضها في دول كبيرة ومتقدمة، لا نتوقع أن نرى فيها هذه الصورة، ومع هذا نشاهد فيها كل يوم ممارسات عنيفة من قبل الشرطة، ومصادمات مع الشعب، يقع خلالها ضحايا من الطرفين.

لذلك فإنه عندما يأتي جهاز شرطة ليغير هذه الصورة النمطية، فهذا يعني أنه يكسر القاعدة المعروفة، ويحتاج إلى جهد كبير كي يحقق هذا الهدف.

وهذا ما فعله جهاز الشرطة في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث حوّل الشرطة من أداة لقمع الشعب، كما يحدث في دول كثيرة، إلى جهاز لخدمة الشعب فعلاً، وليس شعاراً يعلق على بوابات المخافر والأقسام، مثلما نشاهد في الأفلام. بل إن جهاز الشرطة لدينا تجاوز هذه المرحلة، وبدأ يعمل لإسعاد جمهوره، رغم صعوبة هذه المهمة.

ويحضرني في هذا المقام ما قاله الفريق خميس مطر المزينة، عليه رحمة الله، خلال محاضرة ألقاها في ندوة الثقافة والعلوم بدبي، في شهر مايو الماضي، عندما ذكر أن شرطة دبي تولي اهتماماً بالغاً في استراتيجيتها لإسعاد جمهورها الداخلي المتمثل في أفراد الشرطة، والجمهور الخارجي المتعامل معها، بتوفير خدمات متميزة وذكية لهم.

وأشار إلى أنها تعمل على إيجاد كتيب خاص، يتم من خلاله عرض آراء، تشمل وزراء وأعيان الدولة، عن مدى ثقتهم في خدمات شرطة دبي، بهدف الوصول إلى الإيجابيات والسلبيات، من خلال استطلاع رأي شامل، بهدف تصحيح بعض الأمور، أو تلبية مزيد من الخدمات خلال الفترة المقبلة، والارتقاء بالخدمات القائمة حالياً.

هذه مرحلة متقدمة لا نعتقد أن جهاز شرطة في العالم قد وصل إليها، وهي سياسة نابعة من توجه عام في دولة الإمارات، نستشفه من الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، الذي يقول: «نعمل على استشراف المستقبل، ونحرص على تطوير أدائنا بكفاءة لإسعاد المتعاملين، ضمن منظومة متكاملة من البنى التحتية العصرية الإلكترونية، تواكب تطلعات القيادة، وتتوافق مع رؤية الإمارات 2021».

كما نستشفه من استراتيجية وزارة الداخلية، التي تنبع رؤيتها من جعل دولة الإمارات العربية المتحدة واحدة من أفضل دول العالم أمناً وسلامة، ومن قيمها المتمثلة في العدالة، والعمل بروح الفريق، والتميز، وحسن التعامل، والنزاهة، والولاء، والمسؤولية الوطنية.

وهي استراتيجية تتكامل مع استراتيجية شرطة دبي التي ترمي إلى ضمان مواكبة قطاع الأمن والعدالة والسلامة لمسارات النمو الاقتصادي والاجتماعي، بحيث تتوفر دائماً متطلبات استتباب الأمن وتحقيق العدالة والسلامة للمجتمع والأفراد على حد سواء، وتؤكد قيمها على الشفافية، والتعاون، والعدالة، والحرفية، والعمل بروح الفريق، ويركز توجهها على إسعاد المجتمع الخارجي والداخلي، والإحساس بالأمن والأمان، والثقة بالشرطة.

هذه التوجهات والقيم ليست كلاماً للاستهلاك الداخلي والخارجي، وإنما هي تطبيقات وممارسات على أرض الواقع، يلمسها المواطنون والمقيمون على أرض دولة الإمارات، كما يلمسها كل من يزور الدولة، ويلفت نظرهم، بين كل الأشياء التي ينبهرون بها.

الأمن والاستقرار الذي تتمتع به، رغم تعدد جنسيات المقيمين على أرضها، واختلاف دياناتهم، وتنوع ثقافاتهم، ورغم الوضع المتوتر والملتهب الذي تعيشه المنطقة التي تقع في محيطها دولتنا، وينعكس سلباً على كل الدول التي تجاورها.

 لذلك فإن الذين تداولوا العبارة التي بدأت بها المقال لم يتجاوزوا الحقيقة، بل عبروا عنها خير تعبير، رغم الحزن الذي اكتنف قلوبهم وقلوبنا جميعاً بفقد أحد أبناء هذا الوطن المخلصين، وخسارة قيادة فذة من قياداتنا الشرطية المتميزة.

رحم الله الفريق خميس مطر المزينة، وأجزل له الأجر والعطاء والمثوبة، لقاء ما قدم لهذا الوطن وعمل وأخلص. وهو باق في قلوبنا جميعاً، لأن «من ترك إرثاً للوطن كإرث خميس فما رحل، بل سطر نفسه في سجل مجد الدولة»، كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.

Email