في انتظار أميركا التي لن تجيء

ت + ت - الحجم الطبيعي

طوال الشهور الماضية والأنظار تترقب انتخابات الرئاسة الأميركية التي تجرى بعد أيام. والعالم يتابع السباق نحو البيت الأبيض، وكل القضايا الخطيرة تنتظر القادم الجديد وتأمل في أن تنتهي فترة الجمود التي ترافق السياسة الأميركية الخارجية مع نهاية عهد الرئيس المنتهية ولايته، والتي يتصرف فيها «أو لا يتصرف!» كالبطة العرجاء.

كما تقول أدبيات السياسة الأميركية.

ولا شك أن منطقتنا في مقدمة من عانوا من هذه الفترة في السياسة الأميركية، وأن قضايانا الخطيرة تنتظر ما سيجرى في الانتخابات الأميركية، وأن ثمن الانتظار كان وسيظل فادحاً. في ظل حروب تندلع في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وإرهاب داعشي أو فارسي! وتصاعد لمخاطر تمدد نفوذ الدول الإقليمية غير العربية، في ظل ضعف عربي ما زالت الأمة تدفع ثمنه، ومع توطيد روسيا لوجودها في المنطقة عبر سوريا ومن خلال تحالفاتها الجديدة، ومع تصاعد الحديث عن حرب باردة جديدة بين أميركا وروسيا.

بل عن حرب عالمية ثالثة يحدثنا عنها المرشح الجمهوري ترامب، ولو أن تحذيره يجيء في إطار المنافسة الانتخابية، وفي محاولة لتبرير الكارثة الانتخابية التي ارتكبها حين طلب من بوتين أن يساعده بالكشف عما قد تكون روسيا قد حصلت عليه من أسرار هيلاري كلينتون والحزب الديمقراطي باختراق المراسلات السرية والبريد الإلكتروني لهم!

ومع الاعتراف بأن هذه الانتخابات هي الأسوأ في تاريخ المنافسات الرئاسية الأميركية، فقد كان الأمل أن ينتهي هذا «المولد!» مع بداية العام المقبل وتولي الرئيس الجديد الذي تشير معظم الاستطلاعات إلى أنه سيكون هيلاري كلينتون.

وأن تبدأ الولايات المتحدة الأميركية في استعادة عافيتها السياسية، والتعامل مع الأوضاع المتفاقمة في العالم، واستعادة مقعد القيادة حتى إن لم تعد تنفرد بهذه القيادة، كما كان الحال سابقاً، ولكنها تظل حتى الآن تملك المكانة الأولى، وعليها أن تبني شراكة مع باقي القوى العالمية لمنع انفجار الأوضاع قبل أن يتم اكتمال نظام عالمي جديد ومتعدد الأقطاب في طريقه للتشكيل حتماً!

كان الكثيرون في العالم ينتظرون «وربما ما زالوا!» أن يروا عودة لدور أميركي فاعل مع مطلع العام الجديد، ومع رئاسة أميركية جديدة. أياً كان الفائز في الانتخابات! لكن يبدو أن انتظار من ينتظرون سيطول هذه المرة! وأن أميركا التي ستتعامل مع العالم في ظل الرئيس الجديد ليست هي أميركا التي كانت قبل سنوات! وأن مشكلات الداخل الأميركي أكبر بكثير مما كانت تبدو عليه في الظاهر! وأن ترامب لم يأت من فراغ، بل هو تعبير «قد يكون فجاً بأكثر من اللازم» عن واقع أميركي تنمو فيه العنصرية ومشاعر الكراهية بين فئات المجتمع، وتتفاوت فيه الفوارق الطبقية، وتنمو فيه مشاعر القلق من المستقبل، وتتراجع الثقة في الطبقة السياسية التي تقود المجتمع أو «المؤسسة» التي تعبر عن أصحاب المصالح والتي كانت تحدد معالم النظام الذي يحكم أميركا وتمسك بمفاتيح الاقتصاد والإعلام والسياسة بإحكام شديد.

هذا القلق تجلى في وجهه النبيل مع «بيرني ساندرز» الذي نافس هيلاري كلينتون لنيل ترشح الحزب الديمقراطي، والذي قدم رؤية محترمة وشجاعة لأميركا جديدة أكثر عدلاً وإنصافاً مع الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة، وتتراجع فيها مشاعر العنصرية، ويتغير فيها النظام السياسي والاقتصادي ليتحرر من قبضة الاحتكارات الكبرى، وتصبح فيه أميركا مؤهلة لقيادة عملية تغيير كبرى للنظام العالمي ليكون شراكة حقيقية توزع العدل والثروة والتقدم على شعوب العالم كلها.

ورغم أن ساندرز لم يفز بترشيح الحزب، فقد أصبح شريكاً أساسياً في وضع برنامجه الانتخابي، وفي تحول الحزب إلى وسط اليسار وفي جعل كلينتون تتبنى سياسات أكثر انفتاحاً على إصلاحات جذرية تحقق المزيد من العدالة الاجتماعية وتوسع مجال المشاركة السياسية أمام الشباب.

ها هو ترامب يتحدث عن تزوير مرتقب للانتخابات! ويرفض الالتزام بالاعتراف بنتائجها إلا إذا كان هو الفائز! والغريب هنا أن نرى 70% من أنصار الحزب الجمهوري يشاركون ترامب الرأي! وهو ما يكشف إلى أي حد تراجع الثقة بالديمقراطية الأميركية نفسها! وإلى أي مدى تتسع مشاعر الشك في النظام السياسي الأميركي الذي كان ينظر إليه على أنه النموذج الديمقراطي الأفضل. كما يتم الترويج له في العالم كله!

ولا أعتقد أن ترامب - بهذا السلوك - يمكن أن يقود الأمور إلى حالة فوضى كما يخشى البعض، لكن الخطير هنا أن أميركا التي كان البعض ينتظر عودتها بكامل عافيتها السياسية لتمارس دورها العالمي مع بدء الرئاسة الجديدة في يناير المقبل، لن تكون كذلك! ستكون مشغولة بنتائج انتخابات رئاسية هي الأسوأ في تاريخها، ترامب سيسقط على الأرجح، لكن الأوضاع التي جاءت به ستظل باقية، وستظل تمثل تحدياً خطيراً للإدارة الأميركية وللمجتمع الأميركي كله.

والخطير أن ما تواجهه أميركا تواجهه أوروبا التي تقبل دول رئيسية عدة فيها على انتخابات حاسمة في العام المقبل، سنرى فيها ترامب بصورة أوروبية في أكثر من دولة. وسنرى فيها مشاعر التعصب والكراهية ودعاوى الانغلاق بصورة ربما تفوق ما نراه من أميركا.

****

ووسط هذا كله يأتي السؤال الحزين: هل يمكن لعالمنا العربي أن يدرك حجم الخطر في استمرار غياب الفعل العربي والعمل المشترك؟

Email