«كاسر المياديف»

ت + ت - الحجم الطبيعي

أراد المدير أن يستعرض قدراته الفكاهية، خلال ملتقى ضمّه وموظفيه، فألقى نكتة، ضحك لها الجميع ما عدا موظفاً وحيداً، بقيت ملامح وجهه جامدة لم تحمل أي ابتسامة، فالتفت له المدير، وقال له: يبدو أنك لم تفهم النكتة؟ قال: بلى، فسأله سعادته: فلماذا لم تضحك عليها كزملائك؟ قال: لأنني قدمت استقالتي بالأمس!

هذه النكتة تختصر الكثير من حال المؤسسات، فكما أن هناك العديد من المديرين الرائعين الذين يلهمون حماس موظفيهم، وتتألق بهم مؤسساتهم، فهناك العديد أيضاً ممن يُسمّم بتصرفاته بيئة العمل، ويجعل حياة موظفيه أشبه بالكابوس، ويسارع بالهرب منها المبدعون الواحد تلو الآخر، وكم هو مؤلم أن تنشئ الحكومة الرشيدة وزارة للسعادة، بينما لدينا بعض العاهات ممن يتفنن في التنكيد على موظفيه!

عندما يكون المطلوب من المدير خلق ورعاية وتطوير صف ثان من القادة القادرين على رفد المؤسسة بكفاءات قيادية عالية لمواكبة تحديات المستقبل، نجد العكس عند «كاسر المياديف»، فسعادته يحارب المبدعين حرباً شعواء، لأنهم يشكلون خطراً وجودياً عليه حتى لا يجدوا حلاً إلا ترك المؤسسة هرباً من جوّها المسموم، وفي المقابل يلهث لتعيين وترقية متواضعي القدرات من «قوم أبو أربعة سلندر» ممن لا يمثل تهديداً له حتى تمتلئ المؤسسة بهم، حينها مهما كانت أجندة الحكومة طموحة ودعمها لا محدود إلا أن هذا الشخص ممن ابتليت به مؤسسته سيكون دوماً أشبه بتلك المرساة، التي توقف الجهود الحثيثة للتحسّن المستمر، وعدم القدرة على وفاء المؤسسة بدورها في دعم التنمية، وتطوير الخدمات للمجتمع المحلي.

هذا المدير أيضاً يظن أنه مركز الكون، لذلك لا ينفك عن الحديث عن نفسه أو عن معرفته وصِلاته بعلية القوم لتغطية فشله عملياً، وبيان قوة وضعه، وليس بمستغرب أن يحاول انتقاص الآخرين المتميزين وتجده يبالغ في الانتقاد و«الهزاب» عند حصول أي خطأ أو قصور معتاد، لكنه يتلكأ كثيراً عن شكر أو مدح المميزين حال الإنجاز، بل إن هناك قصصاً كثيرة لبعضهم، وقد انقلب على موظف مبدع لأنه حصل على جائزة تفوق أو نال مديح الإدارة العليا لإنجاز معين، فلا تستغرب إن رأيت سعادته «حايس برطمه»، وهو يبحث عن أي نقطة مهما صغرت ليتنقدها، ليبيّن أنه يرى ما لا يراه الآخرون، وأنّ هذا الإنجاز طبيعي ولا يحتاج احتفاء به قبل أن يُحوّل ذلك الموظف لقسم هامشي، ويمنع من حضور أي لقاء بالإدارة العليا!

هو قد تعوّد إيذاء الآخرين ليس لأنه يهوى ذلك، ولكن لأنهم ببساطة يشكلون تهديداً على وجوده أو منصبه، فيبرر لنفسه تصفية منافسيه في ميكافيلية فجّة، فيخرج المميزون تباعاً من مؤسسته، ومن يتبقّى منهم يشعر بأن طاقته الذهنية والنفسية تُسْتَنْزَف في محاولات إرضاء أو تحمل تنغيص وفرعنة سعادته، ولا يتبقى مزيد من الطاقة لتطوير العمل أو الإبداع، وينتقل التوجه لديهم من تجاوز التوقعات في تحقيق الأهداف والتحسين المستمر إلى «تكفّى شر مديرك» أو «لا تتقاشر له»!

سعادته دأب على تعنيف من يتأخر عن السابعة والنصف صباحاً، ويوقع خطابات الإنذارات ولفت النظر سريعاً رغم أن على طاولته عشرات الملفات المهمة التي تنتظر توقيعه الكريم منذ أسابيع، ورغم علمه أن هذا الموظف الـمُنذَر كان الليلة التي قبلها قد خرج من مكتبه السابعة أو الثامنة مساء إلا أنه لا يكترث، ويكون ردّه المعتاد «أنا يهمني الانضباط»!

عندما يكون دأب القائد المتميز تعزيز الشفافية وإتاحة المعلومات للجميع وتأكيد الثقة بمن حوله، نجد البطل هذا على النقيض فهو يعشق أن يبدو متحكماً في كل شيء، وأن يدرك الآخرون أنه وحده من يعرف كل الخبايا ،ولا يحق لهم معرفتها، وعندما يقف القائد مع موظفيه في حالة الانتقاد من كبار المسؤولين ويتحمّل المسؤولية نجد هذا يدفع كرسيّه للخلف في الاجتماع بالإدارة العليا للاختباء، ويجعل صغار الموظفين تحت مرمى النيران، وكأنه لا علاقة له بالموضوع، المهم ألا يتهدّد منصبه حتى لو كان هو سبب ذلك الإخفاق!

هذه النوعية أيضاً لا يعرف أغلبها أهمية تحديد الأهداف ولا ترتيب الأولويات ولا دفع المؤسسة وتحفيز موظفيها من أجل خدمة الرؤية العامة لها، فأحدهم يملأ يومه بالانتقادات واجتماعاته بمقاطعة الجميع، لا يعرف الخطط بعيدة المدى، ولكنه يُغرِق نفسه في الأمور الطارئة التي كثيراً ما تكون عديمة الجدوى أو باستطاعة صغار الموظفين التعامل معها، وأجندته لا تحوي إلا ردات فعل متشنجة وقرارات ارتجالية متضاربة كثيراً ما يكون مصدرها سكرتيره أو مستشاره الخفي، الذي لا يعدو أن يكون موظفاً فاشلاً ناقماً على البقية، موهبته الوحيدة أنه ينقل «العلوم» لسعادته، ويكشف له المتآمرين عليه!

هذه النوعية تتسبّب في الولايات المتحدة في إنفاق الشركات 360 مليار دولار سنوياً على الرعاية الطبية لموظفيها نتيجة التداعيات النفسية السيئة لتصرفاتهم، بل إن 65% من الموظفين هناك اختاروا تغيير مديرهم الحالي، بدلاً من الحصول على زيادة مجزية بالراتب، ومن كل 4 موظفين هناك 3 يقولون، إن المدير هو أكثر سبب للضغط في العمل!

إنه من إضاعة الوقت والجهد انتظار أن يتغير هؤلاء، فلا يمكن أن يتحول الحجر إلى ذهب مهما طليته من الخارج، فهو طبع متأصل وسيبقى صاحبه ممارساً له مهما أسمعك من جميل التعهدات ومعسول الكلمات، والمتأثر هو المؤسسة والمجتمع المرتبط بخدماتها، والحل هو تغيير ذلك المدير السلبي قبل أن يدمر تلك المؤسسة تماماً، ولا غضاضة في ذلك ولا إحراج، فجميعنا نحسن الظن في من يأتي بسيرة ذاتية براقة، لكن تنكشف الحقيقة لاحقاً لنرى أن الجبل تمخض عن فأر، وبأن نكتته كانت سمجة للغاية كما رآها ذلك الموظف المستقيل!

Email