أميركا وروسيا.. حسابات الربح والخسارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حتماً هناك خلافات عميقة بين موسكو وواشنطن بشأن سوريا، وطبعاً هناك تباين في المصالح الاستراتيجية بين القوتين الأعظم، وتنافس على سوريا والشرق العربي وعموم المنطقة، لكن ما حدود هذه الخلافات، وما سقف التصعيد السياسي الذي يحدث مؤخراً بين روسيا والولايات المتحدة؟!

لقد ذهبت بعض التحليلات إلى توقع حدوث مواجهات عسكرية بين الروس والأميركيين في سوريا، بينما اتجهت تحليلات أخرى إلى منحى الجزم بعدم قدرة إدارة أوباما على إحداث أي تأثير فعلي الآن في تطورات الأزمة السورية، وبأن الأمور ستبقى على حالها في سوريا حتى مجيء إدارة أميركية جديدة في مطلع العام القادم. وأجد في الحالتين مبالغة في التوقعات.

فلا واشنطن وموسكو ترغبان بتصعيد الخلافات بينهما إلى حد المواجهات العسكرية، ولا إدارة أوباما في موضع يسمح لها بترك أوضاع سوريا تستمر على حالها الراهن، بل حسب تقديري، ستنتظر واشنطن نتائج التصعيد العسكري الدائر الآن في منطقة حلب، لكي تعود إلى مضمون اتفاقها مع موسكو، الذي جرى توقيعه في جنيف بين وزيري الخارجية كيري ولافروف.

فواشنطن لا تخسر شيئاً الآن من محصلة التصعيد العسكري الجاري في حلب، حيث تقوم روسيا والحكومة السورية بما هي حذّرت منه عبر مبعوثها الخاص بالأزمة السورية، مايكل راتني، من وجود «عواقب وخيمة»، إذا لم تقبل المعارضة السورية «المعتدلة» بالفصل بين قواتها وبين «فتح الشام- النصرة»، أمّا الأضرار السياسية والإعلامية من نتائج القصف الجوي الذي يحدث في حلب، فلا تطال واشنطن.

حيث الملامة الدولية هي على موسكو وحلفائها. وحتماً لن يتأثر الوجود العسكري والأمني الأميركي في شمالي سوريا من تطورات الأوضاع في حلب.

هي مقولةٌ تتردّد الآن كثيراً، مفادها أنّ النفوذ الأميركي في العالم ينحسر، وبأنّ الولايات المتحدة تشهد حالاً من الضعف في مواقع عديدة في العالم. وتعتمد هذه المقولة على ما حدث في السنوات العشر الماضية، من بروز للدورين الروسي والصيني في أزمات دولية مختلفة.

ومن ظهور لمجموعة «البريكس»، التي تضمّ، إضافة إلى روسيا والصين، كلاً من الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، كمثال على وجود تعدّدية قطبية في عالم اليوم، بعد هيمنة القطب الأميركي الأوحد عقب انتهاء «الحرب الباردة» وسقوط المعسكر الشيوعي، الذي كان يُنافس القطب الأميركي لنصف قرنٍ من الزمن.

نعم، فشلت الولايات المتحدة في تحقيق الكثير من أهدافها ومشاريعها في حروب وصراعات مختلفة حدثت في هذا القرن الجديد، وصحيحٌ أيضاً أنّ هناك سعياً روسياً وصينياً دؤوباً لتكريس نظام متعدّد الأقطاب في العالم. وصحيحٌ كذلك أنّ عدّة دول في قارات العالم تحبّذ الآن حصول تعدّدية قطبية. لكن هل النفوذ الأميركي ينحسر فعلاً؟

وهل تتصرّف أميركا الآن على أساس وجود تعدّدية قطبية في العالم، أو في الحدّ الأدنى، هل سلّمت واشنطن بهذه المتغيّرات الدولية الجارية حالياً؟!

الإجابة عن هذه التساؤلات، تتطلّب رؤية دقيقة لواقع أزمات دولية حاصلة الآن، ولكيفيّة الانتشار الأميركي الراهن في العالم. فالولايات المتحدة تقيم الآن علاقات قوية في شرق آسيا مع دولٍ تُشكّل بيئة جغرافية مهمّة للصين، وبعضها (كاليابان)، له مشاكل مع الصين، وتاريخٌ سيئ في العلاقات.

وهناك ثلاث دول تحيط بالصين، تحتوي على وجود عسكري أميركي مهم منذ الحرب العالمية الثانية: اليابان، الفليبين وكوريا الجنوبية، وهذه الأخيرة، وقّعت اتفاقية «ثاد» مع الولايات المتحدة، لإقامة درع صاروخية أميركية على أراضيها.

وهناك قرار أميركي بتحويل ما يُقارب ثلثي القوة البحرية الأميركية إلى منطقة المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا. فواشنطن تقوم الآن بخطوات استباقية لمنع تحوّل القوة الاقتصادية الصينية إلى قوّة عسكرية ضخمة منافسة للولايات المتحدة.

أمّا محاولات التحجيم الأميركي لروسيا، فهي متعدّدة، رغم حرص واشنطن على عدم حدوث تصادم عسكري مع القوة العسكرية الروسية، التي هي الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، وتملك صواريخ نووية عابرة للقارات، ولم تصطدم معها أميركا في أسوأ ظروف «الحرب الباردة»، حيث حرصت موسكو وواشنطن (كما تحرصان الآن)، على إبقاء الصراعات بينهما في ساحات الآخرين.

ومن خلال الحروب بالوكالة عنهما، وليس بالأصالة منهما. ولعلّ الأزمة الأوكرانية، وقبلها جورجيا، ومعها الآن سوريا، لأمثلة عن كيفية سعي واشنطن لتحجيم النفوذ الروسي العالمي، ولمشاركة روسيا في مناطق كانت محسوبة كلّياً لموسكو.

فالبعض يتصوّر الآن أنّ موسكو قد انتصرت في المسألة الأوكرانية، بينما واقع الحال هو أنّ واشنطن ومعها «الناتو»، قد وصلا إلى الحدود الاستراتيجية المباشرة للاتحاد الروسي، بعد أن امتدّا أصلاً إلى دول أوروبا الشرقية، وأصبح جزء من هذه الدول عضواً في حلف «الناتو».

ويحضرني هنا ما قاله الرئيس الأميركي أوباما في مطلع عام 2014، حينما سأله صحافي أميركي عن مدى صحّة ما يُقال بأنّ إيران تربح في سوريا، وبأنّ واشنطن ضعيفة هناك، حيث ردّ أوباما أنّ سوريا كلّها كانت مع إيران قبل تفجّر الأزمة الدموية فيها، بينما إيران وحلفاؤها هم الذين يستنزفون الآن هناك. ولعلّ هذه النظرة الأميركية، تنطبق أيضاً على النفوذ الروسي في سوريا.

حيث كانت كل سوريا حليفة لروسيا، بينما الآن هناك جماعات ومناطق على علاقة قوية جداً مع الولايات المتحدة. وأصبح لواشنطن مراكز أمنية وعسكرية في عدة مناطق بشمالي سوريا، وطائرات «الناتو» تحلق فوق الأراضي السورية، وسيكون هناك حضور ومشاركة بالحكم لمن هم على علاقة جيدة مع واشنطن في أي تسوية مستقبلية للأزمة السورية!. فمن الذي يخسر وينحسر في سوريا؟!

هناك بتقديري فارقٌ كبير بين مقولة «الانحسار»، وبين عدم نجاح واشنطن في السنوات الماضية بتحقيق كل ما كانت تريده أو ما خطّطت له من مشاريع.

 

Email