رؤية استراتيجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين تتجول في الأسواق والمولات ستجد بأنها تعج بأحدث صيحات الموضة، ألبسة، أحذية، فساتين، مكياجات وعطور، وحتى في قصات الشعر وألوانه، فالموضة هي الشغل الشاغل للعالم أجمع، وتتلاحق أعين الناس وأموالهم للحصول على مقتنيات وملابس لمواكبة هذه الصيحات، وهذه قضية عالمية ليست بوطنية ولا حتى عربية.

حديثي اليوم عن الموضة سيكون مختلفاً قليلاً، حيث سأتحدث عن «موضة الفكر» التي بتنا نشاهدها في مجتمعاتنا، فقد باتت الموضة اليوم هي أن تصبح إعلامياً أو مشهوراً، وأن يكون في رصيدك مجموعة من المؤلفات الأدبية، وهذا أمر جيد ولا غبار عليه، وفعلا ما نحن بحاجة إليه بأن يصبح الفكر موضة تتهاتف إليها المجتمعات، وتطلبها وتسعى إلى اقتناء مفرداتها ومكوناتها.

جميل جداً ما نراه من تعدد وتنوع المؤلفات، وحالة النشاط الفكري والأدبي، وهذا وإن دل على شيء فسيدل على أن مبادرات الدولة باتت تثمر، وأثرها ملموس على أرض الواقع.

وما نقصده من التطور والرقي بات على بُعد خطوات من التحقيق، لكن هذا كله يحتاج إلى أمر بسيط، إلى توجيه الدفة بالمسار الصحيح، وأقصد أن يتم استحداث منهجية وطنية لتنشئة أجيال تلاحق حالة الفكر والمفكرين، وعلى الأسس العلمية الصحيحة، ولا مانع إن استحدثنا شواغر لمؤلفين أطفال وشباب، وشجعناهم، والعمل على تنميتهم وتطويرهم لنستفيد من مخرجاتهم مستقبلاً.

دول العالم بأكملها باتت تخطط للمستقبل، وتضع استراتيجيات لتطوير شعوبها، وتمكينهم وتسليحهم في شتى المجالات، ففي هذا الزمان لا مجال للصدف وضربات الحظ، والجهود الفردية، فإن كانت مقولتنا تقول: (الإبداع يولد من رحم المعاناة)، فقد تحولت الحكاية وأصبحت المعاناة تُولّد التطرف والحقد والبغضاء، إذن نحن بحاجة إلى حافز آخر ومغاير لتوليد الإبداع، والحافز في العصر الحديث يكمن في الخطط والتنظيم، ورسم المستقبل.

في قانون التجار البسطاء هناك مسمى (البضاعة برسم البيع)، والتي تعني أن يعرض التاجر بضاعته عند آخر، فإن باعها يقبض ثمنها، وهذا حال المؤلفات والمؤلفين، فقد يعجز أي كاتب عن توفير تكاليف إخراج إبداعاته من الأدراج، وإن استطاع فسيعرضها (برسم البيع) في الأسواق، وهذه حالة غير صحية لتشجيع ألاجيال على الابتكار الأدبي والعلمي، وهنا يتوجب أن نوجد آليات لاستثمار الطاقات وتسويقها بالشكل الصحيح، وهذا مسؤولية الدول بمؤسساتها وحكوماتها.

ما زلنا إلى يومنا الحالي نتغنى بتاريخنا العربي، ومؤلفاتنا التي دُفع ثمنها قناطير من ذهب قدمها الخلفاء كتشجيع للمؤلفين والشعراء، وبهذه الطريقة كان في تاريخنا أحقاب تميزت بكثرة المؤلفات والمؤلفين ونتاجهم الفكري والعلمي، وصحيح أن الزمان تغير، وقناطير الذهب أصبحت صعبة المنال.

لكن هناك الكثير من الطرق لتشجيع المبدعين من كتاب ومؤلفين ورياضيين وفنانين.. إلخ، أهمها التخطيط لمستقبلهم، والعمل على إيجاد مسار يسلكونه في حياتهم يتماشى مع رؤية الدولة ومستقبلها، ويلبي مقومات حياتهم الشخصية.

نريد الفكر منهجاً ثابتاً ماضياً بخطوات واضحة نحو المستقبل، وهذه مهمة وزارات الثقافة والفنون والإعلام، وصحيح أننا ما زلنا في عام القراءة، لكن نحن في الربع الأخير منه، وقد جرت العادة في الأسواق المالية بأن هذا الجزء مخصص للمراجعة النهائية وحصر الأرباح، والتخطيط لسنة مقبلة، وهذا بالضبط ما يجب أن نعمل عليه، ما بعد عام القراءة ماذا سيكون؟!، وما هي نتاجاتنا وإنجازاتنا وما حققناه خلال هذا العام؟!.

مبادرات شيوخنا حفظهم الله ماضية لتطوير البلاد، مما يتوجب علينا كشعب أن نعمل على تحقيق أهدافهم ورؤاهم لتحقيق مصلحة الإمارات، فعام القراءة ليس موضة هذا العام، ولا هو منهج لسنة تنتهجه مؤسساتنا، ولا هو «أسبوع الابتكار»، وبعدها ستبحث عما هو جديد، إنما رؤية شيوخنا الاستمرار والاستمرارية في العمل لتحقيق الأهداف المخطط له، وتربية نفوسنا وعقولنا على هذه المنهجية، وانعكاس هذه المبادرات على منهجية حياتنا بأكملها.

ولقد بدأ العام الدراسي الجديد، ودخل أبناؤنا فصولهم الدراسية بأثواب وحقائب جديدة، فهل تغيرت عقولهم وطريقة تفكيرهم ومنظورهم، بعدما عاشروا عاماً كاملاً ضمن مبادرة عام القراءة، فما هو منظورهم للكتاب الآن؟، فهنا تقاس النتائج الحقيقية.

وهذا ما كانت تعنيه المبادرة، أن توجد تغييراً في طريقة التفكير، لذا علينا الاستمرار أولاً، والتخطيط ثانياً، وأن نوجد المفاهيم الرائعة التي تحملها شعارات مبادراتنا في عقول ونفوس أجيالنا وشعوبنا بما ينعكس إيجاباً على مستقبلنا وأيامنا المقبلة، ومؤسسات الدولة المعنية عليها أن تعي وتهتم بالنتاج الفكري.

وما تصل إليه العقول، فهي من ستحرك المستقبل، ومستقبلنا مرهون بقدرتنا على التغيير والتطور، واستثمارنا الحقيقي في أجيالنا، فلنعمل على تسليحهم بالقيم ومفاهيم مبادراتنا الوطنية، ونحميهم من الموضة المتغيرة المتبدلة لنجعل خطواتهم ثابتة، وليس ركضاً نحو السراب.

ولنلخص ما ذكرناه وشرحناه سلفاً؛ إن النتاج الفكري والإبداعي لأية دولة هو تخطيط لمؤسساتها، ونتاجه يقاس بالعقول والنفوس، لذا علينا ألا نحول أفكارنا لموضة نتبعها أياماً وشهوراً ومن ثم نبدلها، فقد جاءت الاستراتيجية الوطنية لتطوير كافة القطاعات ووضعت الخطط للوصول إليها، وواجبنا أن نتماشى مع هذه التوجهات وبخطة محكمة ومدروسة، فبالتخطيط والدعم والتشجيع نحقق المراد.

 

Email