مدارسنا تصنع مستقبلنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا أردت أن تعرف حاضر شعب، عليك أن تنظر إلى قدرة أبنائه على الإبداع والابتكار، وإذا أردت أن تستشرف مستقبله، عليك أن تنظر إلى ما يتعلمه أطفاله، بدءاً من الروضة، مروراً بمراحل التعليم الأولى ثم المتوسطة، ذلك أن ما يتلقاه الفرد في سنواته الأولى، هي الأبقى والأدوم والأكثر تأثيراً، وإذا شئت، فإن لها دور مؤثر في تحديد خياراته المستقبلية، التي لا تستطيع الجامعة وحدها القيام بالدور الأعظم فيها.

ومع بداية كل عام، نتطلع دائماً، آباء ومعنيين ومهتمين وممارسين لمهنة التعليم، إلى تحقيق نجاحات جديدة، مستفيدة من ذلك الدعم غير المحدود من قيادة تدرك أهمية التعليم، وتملك إرادة الفعل، باعتباره الاستثمار الأدوم والثروة الأبقى، والقيمة المضافة لوطننا المعطاء، وباعتباره سفينة النجاة من كافة العواصف والخطوب، وهو ما يدفعنا دائماً إلى أن ندق دقاً منتظماً على ذات الأوتار.

ذلك أن التعليم سيظل هو المشروع الأكبر لنهضة الشعوب، وبخاصة، أنك لو تأملت قليلاً حالة الشعوب التي استطاعت أن تخطو خطوات تنموية كبيرة، لن تجد لها ميزة إنتاجية في سلعة محددة، بقدر تميزها بعقول أبنائها وقدراتهم العلمية والتعليمية.

ولأن الأمر على هذا النحو، فإن إطلاق مصطلح العملية على التعليم، يعني أنها تمثل شكل من أشكال التفاعل بين أكثر من عنصر، أخذاً وعطاء، بما يعني أن تراجع إحداها يؤثر في الأخرى، بدءاً من الطالب، وليس انتهاء بالمعلم.

إن المعلم يقع في القلب من العملية التعليمية، لأنه مقدم المادة والموجه، وهو القادر على أن يستنفر من المتعلم أهم ما لديه، وهو المكتشف لمواهبهم والمحفز لقدراتهم، وهو حلقة الوصل بين المضمون وبين المتعلم، من هنا، كانت كفاءة المعلم حجر أساس في إنجاح باقي العناصر، وبخاصة أن دوره في المراحل الأولى يتعاظم عنه في غيرها، وإذا افتقد كفاءة علمية ومهارة اتصالية، فإنه لن يكون تطوير المنهاج وتحديث المعامل والمختبرات واستخدام أحدث تكنولوجيات التعليم ذا جدوى أو نفع، بل إن كفاءة المعلم ذاتها، قد تجبر أي خلل، أو تعوض نقصاً ما في باقي العناصر.

من ناحية أخرى، إن ثقافة المعلم الموسوعية وإلمامه بمفردات عصره، ستمكنه من المزاوجة بين ما يقدمه من معلومة، وبين شواهد بيئية داعمة لها، قادرة على الاستفادة الوظيفية من المادة المقدمة.

وهو ما يرسخ لدى المتعلم، القدرة على الرصد والتحليل والنقد، وهو ما يجعله في حالة استنفار فكري مستمر، ويحول الوجبة الدراسية من تلقي المعلومة إلى الاستمتاع والاستفادة بها في فهم الظواهر من حوله، وهو ما ينمي لدى الدراس ملكة التأمل.

إن من أهم وظائف العملية التعليمية، هو بناء جيل من المبتكرين، وهو ليس بالأمر المستحيل، وبخاصة أن التفكير الابتكاري يجب أن يبدأ من المراحل المبكرة، وهي قدرات يمكن للفرد أن يتعلمها من خلال التركيز على دراسات الحالة وحل المشكلات وتنمية ملكة البحث عن المعلومات دون تلقيها بشكل مباشر.

وهو ما يرسخ لديه ملكة المثابرة والإصرار، وهي أداة رئيسة من أدوات التعلم والتميز، وهو ما يجعلنا نذهب إلى أهمية ترسيخ القراءة، واعتبارها منشطاً أساسياً، والعودة إليها ليس باعتبارها زاداً ثقافياً فحسب، ولكن باعتبارها جزءاً مكملاً لما يتم تدريسه.

بحيث لا يكون الكتاب المدرسي جامعاً مانعاً لمحاولة السعي لمزيد من المعلومات، ولا شك أن رعاية الدولة للكتاب، والدفع المستمر للتشجيع على القراءة، يجب أن تكون مؤسساتنا التعليمية والمدارس في مقدمها حاضنة لها، حتى تكون نمط تعلم ثابت ودائم، فضلاً عن أهمية ربط المكتبات المدرسية إلكترونياً بالمكتبات العامة والمكتبات العالمية.

كذلك من الأهمية بمكان، أن يتيح النظام التعليمي لكل دارس، أن يكتشف مهاراته، وأن يعبر عن نفسه، وهذا لن يتأتى إلا من خلال المناشط غير الصفية، أو جعل النشاط الصفي منصباً بصورة أكبر على إكساب المهارة، وهنا، يقوم المعلم بدور المدرب. إن اكتساب المهارة، هو الطريق إلى الاستفادة من المعلومة، وهو السبيل إلى أن يعرف المعلم قدرات وإمكانات الدراسين، وهناك الكثير من الأساليب التي يمكن اتباعها بعيداً عن القاعات الدراسية المغلقة.

ولا شك أن ذلك كله لا بد أن يدور في إطار من القيم الإيجابية، التي يعرف معها الدارس أهمية الدور الذي يقوم به، وكيف يمكن توظيف المعلومة والمهارة، في عصر تعددت فيه مصادر التعلم وباتت بغثها وسمينها متاحة، وتشابكت العملية التعليمية مع تكنولوجيا الاتصال، يجب أن يتم تنمية مهارة الانتقاء والتمييز لدى الدراس، وأن تكون قيمه هي القاعدة التي يستند عليها في الاختيار، فلا فائدة أو قيمة لعلم يدور بعيداً عن الإطار الأخلاقي، وإلا قد يفضي بنا إلى نوع من العبث.

إن أهمية التعليم في مراحلة الأولى، ترجع إلى أن البدايات الطيبة هي التي تحقق النهايات السعيدة، ولأن الأجيال الغضة هي التي ستتحمل المسؤولية في ما بعد، لذا، فإن مدارسنا تصنع مستقبلنا.

 

Email