موسكو تتمدد برعاية إيرانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

روسيا تكثف من وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط منذ تدخلها المفاجئ في سوريا في سبتمبر 2015 بطريقة لافتة للنظر، وذلك لأنه تدخل يتجاوز كثيراً الحاجات اللوجستية لإسناد نظام الرئيس الأسد؛ فهي لم تكتف بإحضار طائراتها ومستشاريها إلى سوريا للإسهام فعلياً بعمليات عسكرية مكثفة.

بل جلبت القطع البحرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وقامت بضرب مواقع المعارضة السورية بصواريخ موجهة من نوع كاليبر من أسطولها في بحر قزوين، ثم أعادت الكرة من أسطولها في البحر المتوسط، ثم أدخلت منظومة صواريخ إس 400 للسيطرة على أجواء تتجاوز مساحة سوريا لتشمل جنوب تركيا وأطرافاً من البحر المتوسط.

وقامت أخيراً بالاتفاق مع إيران على استخدام القاعدة الجوية في همدان لهبوط وإقلاع القاذفات الروسية الثقيلة من طراز توبوليف التي بدأت تستخدمها لضرب مواقع المعارضة السورية في حلب وإدلب.

وها قد مر ما يقرب من سنة على هذا التدخل لم نشهد فيها انتصارات لنظام الرئيس الأسد على معارضيه؛ إذ لم يستطع هذا التدخل على الرغم من كثافته وعنفه إحداث تغيير يذكر على معادلات القوى؛ فالقتال على الأرض لا يزال يشهد توازناً على الرغم من وصول حجم معاناة الشعب السوري إلى درجة غير مسبوقة في التاريخ، ومدينة حلب شاهد على ذلك باعتراف المنظمات الدولية.

ورثت روسيا عن الاتحاد السوفييتي السابق الإصرار على منافسة الغرب إن لم نقل التمسك بسياسة معاداته؛ فهي لم تتقبل الهزيمة في الحرب الباردة، العنجهية والتوتر وهوس القوة الذي يحكم مواقفها في مقاربة القضايا الدولية لا يزال محكوماً بالإرث الفكري الذي تركه الاتحاد السوفييتي على الرغم من أن البنية الاقتصادية لروسيا قد تغيرت كلياً بما لم يعد يتفق مع ما كان الاتحاد السوفييتي يدعو له.

مقاربات روسيا لقضايا المنطقة بالأسلوب الذي قامت به في سوريا تزيد من عزلتها الدولية ولن تنقلها إلى مصاف الدول العظمى.

التنافس مع الغرب ومقارعته على المستوى الدولي أمر أكبر بكثير من قدراتها؛ فالغرب لم يتفوق على الاتحاد السوفييتي بقدراته العسكرية رغم أنه امتلك ذلك التفوق، بل بقدراته وإسهاماته بدفع عجلة التطور في مجالات العلوم والتكنولوجيا والطب التي استفادت منها البشرية جمعاء، حيث كانت تلك الإسهامات أبلغ رسالة حملها الغرب للعالم.

كان الاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة يمتلك من القدرات العسكرية التدميرية ما يوازي ما كان الغرب يمتلكه، إلا أن الكفة قد اختلت لصالح الولايات المتحدة حين تبنت إدارة الرئيس رونالد ريغان برنامج حرب النجوم، وأصبح الاتحاد السوفييتي أقل قدرة على إيصال أسلحة التدمير التي يمتلكها إلى أهدافها.

إلا أن قوة الاتحاد السوفييتي الحقيقية كانت تكمن في حزمة القيم التي عمل على تسويقها لكسب الرأي العام العالمي وتحريضه على الغرب وسياساته، والتي تتعلق بحقوق الدول الصغيرة والدفاع عن الطبقات المسحوقة في المجتمعات، وهي مجموعة قيم لم يعد بإمكان روسيا تبنيها لأن نظامها الاقتصادي قد تغير نحو الرأسمالية.

عروض القوة التي تقدمها موسكو في المنطقة مرشحة للتمدد داخل المنطقة نفسها، وذلك بسبب وجود أزمات كثيرة فيها تشجع على التدخل من جهة وسلبية الموقف الأميركي من جهة أخرى.

إذا كان ضم شبه جزيرة القرم التي تضم قاعدة سيواستبول البحرية ضماناً لاستمرار حضور أسطول البحر الأسود الروسي في البحر الأبيض المتوسط، فهل سيكون لقاعدتها الجديدة في الأراضي الإيرانية مقدمة لتمدد روسي إضافي في الشرق الأوسط؟

هناك أسباب قوية دفعت إيران للموافقة على السماح لروسيا باستخدام قاعدتها الجوية في همدان تتجاوز التنسيق في عمليات الدفاع عن النظام السوري، وليس من المستبعد في ضوء ذلك أن تمنحها تسهيلات عسكرية أخرى.

روسيا لا تفوت مناسبة لتحدي النظام الدولي أحادي القطبية لموازنة ضغوط الناتو عليها في جوارها الجغرافي المباشر الذي كان حليفاً لها في حقبة الحرب الباردة؛ فهي تبحث عن مواطئ أقدام لها في الصراعات الدائرة بالمناطق الساخنة والقريبة منها جغرافيا، وذلك يتفق مع الخطوط العامة لإستراتيجية إيران في المنطقة.

مواقف روسيا لم تواجه حتى الآن من قبل الدوائر الغربية بغير الإعراب عن القلق، فإدارة الرئيس أوباما مستمرة في تراجعاتها وهي تقترب من أوان رحيلها. إلا أنه ليس من المتوقع أن تستمر الحال على ما هي عليه مع الإدارة الجديدة، خاصة مع المرشحة الرئاسية كلنتون في حالة فوزها؛ فهي لم تخفِ رغبتها في العمل على حسم الموقف في سوريا وإسقاط نظام الرئيس السوري.

 

Email