رذاذ الرأي

ت + ت - الحجم الطبيعي

انتفض النائب مصطفى علي الملقّب بـ»أبي عَنَد« لشدة عِنَاده وتمسّكه برأيه واستماتته أو بمعنى أدق انتحاره دونه، انتفض وبسط يديه بكل قوة على الكرسي الأمامي للنائب أبو عادل الثمانيني وخاطب جموع المجلس معتَرِضَاً على آفة البرامج التلفزيونية التي تُقَام لاكتشاف المواهب الشبابية، وقال بصوت عالٍ إنها تضليل وحَرْف للشباب عن الصراط المستقيم.

تَزبّد فَمَه حتى ابيضّت حوافه وتناثر رذاذه على لحيته الكثّة كما على رأس أبو عادل الذي توقف عن مَسْح جلدة رأسه بيديه العاريتين والنظر إليهما ليتأكد من أن الرذاذ لم يرتق لمستوى البصق المقصود.

واستمر النائب بغضبه وعباراته المتشنجة يفصلها فقط انقطاع نفسه، وقد سالت الكلمات على بعضها حتى غدت مَهْمَهَةً غير مفهومة. ومازال أبوعَنَد ممسكاً بالكرسي الأمامي يهزّه بقوة ويزبد عالياً بالتحريم والتجريم والتكفير، بينما أبو عادل العجوز مبتل الرأس يمسح ويتفقد يديه غير مرة ويقنع نفسه أن المسألة ليست مُقْرفة للدرجة التي أحس بها في النفثة الأولى.

وفي حمّى الصراخ والتشدّد إزاء هذا البرنامج الترفيهي والابتكاري الذي يُشارك فيه النّخبة ويُشاهده الملايين، أصاب النائب العجوز مبتل الرأس واليدين الفضول بأن يتمعّن وجه أبو عَنَد المنتفخ الأوداج لتكتمل عندَه الصورة. ببذلته الرمادية الأنيقة وربطة عنقه المتورّدة أدار أبو عادل رأسه إلى الخلف ليرى تعابير وجه زميله المُتزبّد المستشيط تَعَصّباً.

وهي نظرة تجعل المشهد الدرامي خاص عن سواه لقرب موقع أبو عَنَد؛ ولكنه قوبل هذه المرة بوابل نفّاث أشبه بسم الأفعى المتطاير، غطس العجوز حزيناً في كرسيّه، على أمل أن أحداً من تَيّار الفكر المقابل يتوقف عن الصراخ المضاد فيهدأ أبو عَنَد وأصحابه ويذهب التشنج وينهض الحوار ويَعِمّ التعقّل.

ولكن على العكس استَعَر أبو عَنَد بصراخه عندما قاطعه أحد النواب وأخبره أن بإمكانه أن يكون حرّاً ويغيّر القناة إلى ما يحب وأن المسألة في نهاية الأمر حريّة شخصية ما دام أن ليس فيها أذيّة للآخرين، وتبعها صارخاً في وجه أبوعَنَد أن القضيّة أخذت أكبر من حجمها نقاشاً ووقتاً وأن مواضيع أكثر أهمية للنقاش على جدول أعمال المجلس، مضيفاً بأعلى صوته: أنه مؤيد لهذه البرامج بما جمعت واستبطنت وأوحت وأظهرت وأسرّت.

في هذه اللحظات استعاد أبو عادل أنفاسه قليلاً وهو رجل معتدل متعفف تم تعيينه عضواً برلمانيّاً بالتزكية، عكس رغبته، نظير أعماله الخيرية في بناء المستشفيات والمدارس والجمعيات الخيرية ومساعدة الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ومنحهم فرص تعليمية جامعية مرموقة.

التفت أبو عادل الثمانيني بتوجّس وخوف مكبوت إلى وجه أبوعَنَد بلحيته الكثة الطويلة المحنّاة، وقال له بصوت خافت بالكاد يُسمع: لا عليك حاول أن تشاهد القنوات العلمية كبديل وأنا متأكد أن فيها مكمن الحل، فالعلم دائماً هو الحل. ونصحه بأن يتابع أخبار »كيوريوسيتي روفر« المركبة الفضائية التي حطت ذاك الصباح لأول مرة فوق المريخ ــ الكوكب الأحمر.

فرد عليه بينما الأصوات تعلو أكثر بين المتخاصمين في مختلف أرجاء المكان، وقال: إن هذا كذب كمثل ادعائهم بأنهم صعدوا وهبطوا على القمر. ولهذه الأسباب والترّهات كما أسماها الفقيه في شؤونه، لا يقرأ الصحف أو يطالع القنوات العلمية أو يتصفح مواقعها، ففيها الضّلال البيّن المُبِين وفيها مؤامرة أمَميَّة ستتكشف خيوطها ولو بعد حين.

وما انتهى من رأيه الذي ألقى بكل العلوم والإنجازات البشرية العلمية في سلة المهملات، حتى استأنف حواره وقاطع بالمثل النائب الآخر البعيد في أقصى القاعة، واتهمه بالانحلال الخُلُقِي وأن أمثاله سبب خراب الأمة وتدهور أخلاقها إلى أسفل السافلين.

احتدم العراك بالكلمات وغطس الثمانيني في حزنه أكثر وما أقسى الحزن على الآخرين عندما يكون بدافع الشفقة عليهم، وتطوّر العراك حتى بلغت البَلْغَة مبْلغها، فتشنجت الحناجر وعلا الصراخ وابتلّت جميع الرؤوس والوجوه ..

وبدأت قبة البرلمان تمطر سموم ولكمات وأحذية ومنافض وميكروفونات وقرطاسيات، أما أبوعادل الحزين الفقير لله غطس أكثر أسفل كرسيّه تجنباً للأحذية التي تلمع وحتى الكعاب العالية التي قد تشج الرؤوس، وللحظة ما أدرك أنه تورط، أولاً بقبول تعيينه عضواً شرفيّا،ً وثانياً بمقعده القريب من موقع النائب المشاكس الذي غدا بؤرة تقاطع نيران الكلمات والاهتزازات والرذاذ الماطر المتناثر.

في ملجأ كرسيّه الصغير احتمى العجوز العَالِم الطيّب ليدرأ عنه المقذوفات المتطايرة والتي نزلت بكثافة تجاه »مركز رأس الفتنة« كما سماه أحدهم قبل أن يقذفه بحذائه، والذي أعاده أبوعَنَد إلى مصدره مع صرخة قال فيها: »عليك اللّعْنة...ثَكلتك أمك وإني لثاكِلها«. أصبحت الأحذية ذخيرة يعاد تدويرها في القاعة ذهاباً وإياباً وفي كل اتجاه.

نهض أبوعادل غاضباً من ملجأه الصغير مثكلاً بخيبة أمله وفجيعته ورفع يده اليمنى وصرخ بأعلى صوته في الجميع أن يتوقفوا ويحقنوا الدماء وأن ما هكذا تُورَد الديمقراطية. وبالفعل توقف المتناحرون عن إطلاق النار..

ولكن فقط بالنسبة لأبوعادل المفجوع في أمته، فبعد الرصاصة السادسة لم يسمع العجوز الطيّب أزيز الطلقة السابعة أو الثامنة أو التاسعة أو العاشرة بالرغم من استمرارها. ما زال الشرر يتطاير والجنون يمرح بعبثية فوق رؤوس الفرقاء..

نواب يهربون أو يختبئون خلف جنون الرصاص والموت وعند الرأي المتطرف تحت فضاء قبة الموت. سَكَت أبوعادل إلى الأبد يَرْقب بصمت من الغياب البعيد ضيق فسحة الأمل، رافعاً يد الاعتدال بالحوار ونبذ العنف من أجل الديمقراطية، فمن يراه !!.

 

Email