المجتمع الاستهلاكي كظاهرة ثقافية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تأتي ظاهرة المجتمع الاستهلاكي إلى بلد فقير، تأتي معها أنواع جديدة من السلع والخدمات، ليست للأسف من اختراع البلد الفقير، بل تأتي مستوردة.

إنها سلع وخدمات ابتدعها مجتمع آخر أكثر ثراء، وسمح له تقدمه الاقتصادي والتكنولوجي بإحلال هذه السلع والخدمات محل سلع وخدمات قديمة، وعندما احتاج إلى تصريف الفائض منها قام بغزو مجتمعات أفقر، فأتت إلينا ظاهرة المجتمع الاستهلاكي.

كثيرون يعتبرون ظاهرة المجتمع الاستهلاكي ظاهرة مؤسفة في حد ذاتها، سواء ظهرت في مجتمع غني أو مجتمع فقير، ولكنها في المجتمعات الفقيرة تتخذ أبعاداً تكاد أن تكون مأساوية، لأنها تتجاوز ميدان الاقتصاد، وتصبح «ظاهرة ثقافية».

الذي أقصده بذلك، أن أي سلعة (كالكوكاكولا مثلاً أو السيارة الخاصة)، وأي خدمات (مثل بث مسلسل تليفزيوني)، تنطوي على تعبير عن ثقافة بعينها، هي الثقافة التي ابتدعتها، في مرحلة معينة من مراحل تطورها.

وبالتالي، فهي تعكس أيضاً نظرة معينة إلى الحياة، ونمطاً من أنماط العلاقات الاجتماعية، بل وربما أيضاً موقفاً أخلاقياً معيناً. والمجتمعات تختلف في ما بينها في كل هذه الأشياء (في نوع النظرة إلى الحياة، وفي نمط العلاقات الاجتماعية وفي مواقفها الأخلاقية، ما يجعلنا نتكلم عن «ثقافة مختلفة».

ومن ثم، فإن قيام مجتمع باستيراد سلع وخدمات ابتدعها مجتمع آخر، قد ينطوي على «خطر» ثقافي، يزداد مع ازدياد حجم هذا الاستيراد، وحجم الترويج لهذه السلع الجديدة، ودرجة نجاحها في إثارة الشغف بها والتطلع إليها، كما يزداد الخطر بالطبع، كلما زادت درجة التعارض بين ثقافة «المصدر» وثقافة «المتلقي السلبي».

كثيرون منا يستهينون بهذا الخطر، بل وقد لا يعتبرونه خطراً على الإطلاق، فلا يرون أي بأس من انتشار الاستهلاك لأشياء ابتدعها الغير، إذ لا يرون في هذه الأشياء إلا وسائل لإشباع حاجات إنسانية عامة، تصلح لي مثلما تصلح لك. فالكوكاكولا في نظرهم، ليست إلا وسيلة لإرواء الظمأ، والسيارة الخاصة ليست إلا وسيلة من وسائل الانتقال من مكان لآخر، والمسلسل التليفزيوني مجرد وسيلة للتسلية. ولكن الحقيقة، أن إرواء الظمأ له وسائل عديدة، ليست الكوكاكولا إلا واحدة منها، وكذلك الانتقال من مكان لآخر، وكذلك التسلية.

قد يأتي الرد على ذلك بالقول «وما وجه الخطر في ذلك؟، فلنفترض أن كل هذه السلع والخدمات ليست إلا وسائل لتأدية أغراض، كان من الممكن أن يستخدم غير هذه الوسائل لتحقيقها، سواء ابتدعها نفس المجتمع أو مجتمع آخر وثقافة أخرى، فما كل هذا الخوف من استخدام وسائل ابتدعها آخرون، ما دامت تؤدي الغرض منها بكفاءة؟، ما الخطر من استهلاك الكوكاكولا، ما دامت لذيذة الطعم، أو من استخدام السيارة الخاصة، ما دامت وسيلة سريعة ومريحة، أو المسلسل التليفزيوني، ما دام مشوقاً وممتعاً؟.

في الإجابة عن هذا التساؤل، تقفز إلى الذهن العبارة الشهيرة للكاتب الكندي مارشال ماكلوهان، في وصف وسائل الاتصال الحديثة، قال: «الوسيلة أو الأداة هي نفسها الرسالة، ويقصد بذلك، التحذير من الظن بأن الوسيلة التي تستخدم لتحقيق هدف معين، هي أداة محايدة، يمكن أن تستخدم لتحقيق هذا الهدف أو غيره، فالحقيقة أن نوع الوسيلة كثيراً ما يحدد الهدف الذي نصل إليها، أو أن طبيعة الوسيلة تحدد مضمون الرسالة التي توصلها.

إن طبيعة جهاز التليفزيون، مثلاً، تحدد طبيعة البرامج التي يبثها، وتحدد الرسالة التي تصل عن طريقها إلى مستخدمي هذا الجهاز، كما أن الرسالة التي توصلها الكتب المطبوعة، تختلف عن تلك التي كانت توصلها الكتب المخطوطة باليد. وما يقوله شخص لآخر عن طريق التليفزيون، يختلف في طبيعته عما يقول عن طريق الاتصال المباشر وجهاً لوجه.. إلخ وقل مثل هذا عن الكوكاكولا والسيارة الخاصة.

الكوكاكولا لا تروي العطش فقط، بل تفعل أشياء أخرى بالمستهلك عن طريق مذاقها، وشكل زجاجاتها، وما يستخدم من إيحاءات في إعلاناتها... إلخ. والسيارة الخاصة تفعل بصاحبها أشياء مختلفة، غير ما يفعله القطار، فتغير مشاعره ونمط حياته، كما يؤدي الجلوس لمشاهدة مسلسل تليفزيوني إلى نمط جديد للعلاقة بين أفراد الأسرة... إلخ.

إذا كان الأمر كذلك، فلا بد من الاعتراف بأن الإمعان في استيراد سلع وخدمات ابتدعها مجتمع آخر وثقافة أخرى، لا بد أن ينطوي على خطر. هل نستطيع أن ننكر مثلاً، أثر أفلام هوليوود على ثقافة العالم المختلفة، وما أدت إليه من إشاعة نظرة معينة للحياة؟، أو هل ننكر أثر انتشار عادة الوجبات السريعة في المطاعم والمقاهي، على نمط المعيشة والعلاقات الاجتماعية في مختلف بلاد العالم؟.

وإذا صرفنا النظر عن أثر أي سلعة بعينها في ثقافة المجتمع، فما بالك بالآثار المترتبة على قدوم عدد كبيرة من السلع التي يجري الترويج لها كلها، باعتبار أن استهلاكها والتمتع بها، هو معيار النجاح في الحياة، والطريق الوحيد للسعادة؟. ألا يؤدي وفود ظاهرة المجتمع الاستهلاكي، إلى تبني المجتمعات التي يجري غزوها، لمشروعات جديدة للحياة، وأهداف مختلفة عما اعتاد أن يتبناه آباؤهم وأجدادهم؟.

Email