دم يسيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما إن ينبس أحدهم برأيه، جاداً أو ساخراً أو محذراً، مشككاً أو حتى سائلاً مستفسراً حول صحة رأي رجل دين ذي عمامة أو بدونها، حتى تنهال عليه جام عبارات التكفير والتهديد من التابعين لرجل الدين هذا أو ذاك، فذلك بعمامته البيضاء أو السوداء، أو حتى زهرية اللون، أو ببذلته البيضاء وربطة عنقه الصفراء، نصّبه مريدوه وتابعوه والمفتونون به مصلحاً اجتماعياً ومُرسَلاً أميناً، وصاحب طريقة.

وغدا «أيقونة شفاعة» لا يُشَق له فكرة أو رأي. ويأخذه التضخم فينتفخ، ويتجبّر ويتطاول ويكفّر، ويحلّل ويُفتي محميّاً بجماهيريته، متزيّناً ببلاغة لغته وبديعياتها، وزهده الظاهري، إلا من النساء الأربع وما ملكت يمينه.

كيف أن يُشكك في أحدهم وقد اعتلوا منابر حماية الأمة وشبابها من الفسق والفجور والعلمانية والعولمة والعلم والموسيقى والأدب والفنون والمسرح، وحتى الشعر. واحتكروا المرأة، وحذروا من مخاطر غوايتها إن خرجت من بيتها موظفة أو متسوقة، أو حتى إن انزلقت في خطيئتها بقراءة صفحات من كتاب حول رياضة صحة الجسد وتخفيف الوزن عند النساء.

من يمنعه من الغلو، وقد اعتبر نفسه في قناته الفضائية أو موقعه الإلكتروني، بأنه الموزع الحصري للدين والحور العين اللاتي لا يهرمن أو يتمنعن، فهو بمكانته، الراعي الأوحد لصكوك الغفران.

مع كل هذا الاختزال المكثف والمركّب في شخصية دينية كارزمية «دهليزية»، تنبت في خبايا جلبابها الفتاوى السوداء، والتبريرات المجنونة التي تؤصل لنمطية التفكير بالتكفير وقطع الرؤوس بالنصال، واعتبار مرتكبيها حماة مخلصين، أوصياءَ منفذين لحكم الله في الأرض.

في ظلال عباءة الدين الفضفاضة لهذا «المُصْلح الجماهيري» القادم من غبار التاريخ، أو ذاك المُقوّم المفوّه، ومن خلفه التابعون الجهلة المتخندقون بتفاسيره وتأويلاته، يحتل بعضهم هذه المكانة الرفيعة التي لا يطالها تشكيك أو نقد، أو حتى استفسار خجول أو مزحة عابرة، وإن فعل أحد العلماء وأصحاب المنطق..

فقد أدخل ملّة الكفر، وحشر مع فئة الزندقة، ووجب عليه حكم أهل الردّة، وحلّت عليه اللعنة، وسيق إلى المذبح.

كل هذا نراه كالطوفان الأهوج، يجتاح ساحات «الحوار الإلكترونية» المتطرفة، المدعومة بأصوات الجهل والتشدد والتكفير الذي ينتهجه قطيع المضلّل بهم، إذ يثغون بأعلى حناجرهم وراء عذب الكلام، والوعد بالصلاح والإصلاح في الدنيا، وبالعتق من نار الآخرة، وبجنة الحور العين، والنشوة التي تدوم سبعين سنة دون انقطاع، كما قال أحد حملة صكوك الغفران الشاطحين المتنطعين.

أن تكون مستنيراً ومتسائلاً عن كُنْه الأشياء من حولك، وتؤمن بمحيطك بطريقتك، وأن الأصل في العلاقة مع الخالق ليس الخوف والترهيب أو العقاب، وإنما الثواب والمغفرة والرحمة، وأن الحب والمحبة هما الأصل بين الناس، ولكن للأسف أن أجواء مشحونة تنتشر هنا وهناك، يقودها رجل دين متزمت أو مصلح اجتماعي متشدد عبر شبكة الإنترنت، فتكون الفتاوى والتأويلات نُصُبَاً لرؤوس فتنة، يتخاصم جراءها البعض. وبالمقابل، نرى العقلانيين دعاة الحوار أقل تشنجاً في حجتهم، وغالباً ما يصفهم الطرف الآخر بالكفرة، وأنهم يسعون إلى خراب الأمة، ودثر السلفية ودفن مكارم الأخلاق.

وفي خضم هذا الاختلاف الذي أفسد للود كل القضية، يُبَجّل التابعون سيد الفتنة، حامل شعلة الإقصاء، ومطلق شرارة الاختلاف، أيما تبجيل، فيغدو عراباً أو أباً روحياً ملهماً. وتتحول قنوات الحوار وساحات النقاش إلى بيئة مستعرة من التشدد والأحكام والمحاكم العلنية الفورية والمذابح باستخدام كلمات التهديد والشتائم الدموية، والاتهامات التكفيرية من كل حدب وصوب، عابرة للحدود، فيُذبح العقل ضمنيّاً، ويُجز العنق الواحد افتراضياً آلاف المرات، وتقطع الألسن وتجدع الأنوف بالوصف الدقيق، وتعلو أصوات التنمّر والتهديد ضد العقل والمنطق، وحتى الأسماء، وأدنى أدبيات الحوار، فيتربع رجل الدين «المزعوم»،.

كزعيم مُخَلّص ومنقذ وملهم، فتسيل الدماء الافتراضية تعصباً لفكره ورأيه على كل صفحات المواقع الدعوية والفئوية، التي يقودها هذا المتشدد أو ذاك المتطرف، ويخنق عنق الحوار، ويعودون بنا إلى عصر الجاهلية أو ما قبلها، باعتبار أن الحوار في الجاهلية، كان في أحسن حاله من تلك المواقع الإلكترونية، فقد كان الرأي بالشعر ديدن حوار العرب القدامى، ومنصتهم التعبيرية الإبداعية.

وفي هذا الربيع العربي الغرائبي العبثي، اختنقت ينابيع العقل، وتاهت مياه الشتاء، ولم تجد حتى الآن على الأقل من يُصرّفها بتروٍّ واعتدال، لتروي سهول الحياة، فيبلغ مداها بقايا بذار القمح في زمن سُرِق فيه المحراث والمنجل..

ودارت رحاها حروباً أهلية، ذُبح فيها العقلاء والمستنيرون والمفكرون والعلماء والإعلاميون، فلا جاء الربيع بسنابله، ولا حلّ الصيف بقمحه. فأصبح العرب في تيه فصولهم خارج الزمن، والمنطق الطبيعي للأشياء والتوقعات. فتكاثر عبث التطرف، وأحرقت صوامع القمح، وغدا المحراث أداة للطعن والقتل، والمنجل أداة لجز الأعناق.

وما التهديدات الدموية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، إلا ترهيب للعقل، وأسر للفكر، وإعدام للرأي، وقطع ينابيع الاعتدال، وإضعاف صوت العقلاء في مواجهة المتنمرين المتدثرين في أثواب العظة والدعوة بالتي هي أشد وأقسى، ولكن من المؤكد، أن مياه التطرف لن تصمد على معاكسة الواقع الطبيعي للأشياء، ولن تصعد بعكس الجاذبية الإنسانية والعقلية، مهما نفخوا ودفعوا وتشنجوا بهذا الاتجاه الغيري والإقصائي غير الإنساني وغير الطبيعي، فالتاريخ البشري مليء بالنماذج والحالات والأمم التي رفضت سلطتهم وتدخلها.

 

Email