المجتمع الاستهلاكي.. القضية والحلول

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثر منذ سبعينيات القرن الماضي، استخدام اصطلاح «المجتمع الاستهلاكي»، لوصف ظاهرة لم تكن شائعة من قبل، ثم لفتت الأنظار في الدول الثرية، ثم ظهرت أيضاً في الدول الأقل دخلاً.

ظاهرة المجتمع الاستهلاكي، لا يقصد به بالطبع شيوع الرغبة في الاستهلاك، إذ متى كان هناك هدف للإنتاج غير الاستهلاك؟، التغير الذي حدث، ليس أن الاستهلاك أصبح هدفاً، ولكن التغير حدث في مضمون ما يجري استهلاكه، وفي نظرة الناس إلى الاستهلاك، وما أصبح له من أولوية في اهتماماتهم، وزيادة أهميته كمعيار في تحديد مكانة الفرد في المجتمع.

استهلاك الأنواع الجديدة من السلع والخدمات، ظاهرة لا تخطئها العين، سواء كنت في بلد صناعي ثري، أو في الأحياء «الراقية» من البلاد الأقل ثراء. هذه الظاهرة، بالطبع، عصية على القياس، لأنها ظاهرة نفسية ومادية في الوقت نفسه، ومن ثم يصعب أيضاً تحديد وقت ظهورها بدقة. هل بدأت في السبعينيات، أم في منتصف الستينيات، أم قبل ذلك؟، ولكن من المؤكد أنها شاعت واستفحلت في بلادنا الفقيرة، مثلما شاعت في بلاد المنشأ الغنية، مع فوارق مهمة في مظاهرها وآثارها عندنا وعندهم، ما يستحق بعض التأمل.

أول ما نلاحظه من فوارق، يتعلق باختلاف مستوى الدخل، إن ظهور المجتمع الاستهلاكي في الدول الغنية، لم ينشأ إلا بعد أن تجاوز متوسط الدخل للغالبية العظمي من الناس مستوى إشباع الضروريات، وبعد أن نمت الطبقة الوسطى عندهم، حتى زادت عن نصف المجتمع بكثير. جاءت ظاهرة المجتمع الاستهلاكي، إذن في الدول الغنية (مهما كان انتقادنا لهذه الظاهرة وسخطنا عليها)، كتطور طبيعي، أو كنتيجة لارتفاع مستوى الدخل، بعد أن أشبع معظم الناس حاجاتهم الأساسية. ولكن انظر إلى ما حدث عندنا. جاءنا المجتمع الاستهلاكي، بناء على ضغط الشركات الكبرى لفتح أبواب الاقتصاد، قبل أن نشبع الحاجات الضرورية لمعظم الناس.

وصلتنا موجات الدعاية لسلع تافهة وغير ضرورية، مع تصويرها بأن الحياة لا يمكن أن تستمر بدونها. كان لا بد أن تحدث نتيجة لذلك، توترات شديدة، تفوق بكثير ما أنتجته ظاهرة المجتمع الاستهلاكي من توترات في البلاد التي أبدعتها.

والطبقة الوسطى في بلادنا، حديثة العهد، ومن صعد إليها لم يطمئن بعد إلى أنه هو وأولاده سيظلون فيها، ولن يجبروا على الهبوط من جديد لطبقة أدنى.

كل هذا يجري في مجتمع ما زال أغلبه من الأميين أو أنصاف المتعلمين، وهؤلاء يقعون بسهولة أكبر في شراك الدعاية، وضحايا لسحر السلع الجديدة. بل سرعان ما يقع مثقفونا في الفخ نفسه، فيصبح الحصول علي هذه السلع، علامة من علامات تفوقهم في مجتمع أمي فقير، بل ودليلاً على علو مركزهم الثقافي أيضاً، فتزداد البلبلة وتزداد صعوبة التمييز بين مثقف وآخر!

الأسوأ من هذا، ما أصاب الناس في أسفل السلم الاجتماعي، بسبب شيوع ظاهرة المجتمع الاستهلاكي في بلادنا. لقد عاصرت الفقر في مصر قبل ثورة 1952، أي لفترة طويلة، قبل قدوم المجتمع الاستهلاكي، وشاهدته اليوم بعد قدومه، فلاحظت مرارة ومذلة في عيون وسلوك الفقراء الآن، لم تكن موجودة من قبل. (بالإضافة إلى وقاحة وسخافة في تصرفات الأغنياء، لم تكن أيضاً موجودة من قبل). إن الفقر كان طبعاً أشد في مصر قبل 70 عاماً، وكان يتعلق أساساً بمستوى التغذية والملبس والمسكن. ولكن المدهش، أن من الممكن أن يشعر المرء بمذلة أكبر ومرارة أشد، إذا عجز عن دفع نفقات الدروس الخصوصية لأولاده مثلاً، ما يشعر به عندما يعجز عن شراء الكمية التي يحتاجها من اللحم أو الفاكهة.

إن مهمة الدولة الأساسية، بالطبع، هي وضع حد لاعتداء البعض على حقوق الآخرين. وفي المجتمع الاستهلاكي، يحدث مثل هذا الاعتداء، سواء كان البلد غنياً أو فقيراً، والدولة عندما تبدو أكثر رخاوة منها في الدول الغنية، وأقل احتراماً للقانون، فهي تترك مثل هذه الاعتداءات تحدث وتتكرر، دون أن تتدخل التدخل الواجب.

في النهاية، لا يجب أن ننسي أن الأنواع الجديدة من السلع والخدمات التي ابتدعت في عصر المجتمع الاستهلاكي، ليست من ابتداعنا أصلاً، بل ابتدعت في الغرب، ثم استوردناها. وهذا يجعل استفحال المجتمع الاستهلاكي في بلادنا أقبح وأفظع. فالسلع الاستهلاكية كثيراً ما تكون تعبيراً عن ثقافة غربية، وعن علاقات اجتماعية نشأت وتطورت في الغرب، وقد تكون مناقضة لثقافتنا وعاداتنا. ولكن هذا الحظر «الثقافي» للمجتمع الاستهلاكي، يحتاج إلى بعض التفاصيل.

Email