رباعيّة المجتمعات الحديثة الناجحة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيرون من العرب، في داخل بلدان الأمّة وخارجها، يتساءلون الآن عن ماهيّة بديل الحالة العربية الراهنة، التي سماتها الحروب الأهلية والانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية..

وتصاعد التدخّل الأجنبي، وانهيار أوطان ومجتمعات. ويشترك كلّ العرب في وصف واقع الحال ورفضه، لكنهم يختلفون في فهم أسبابه وبدائله المنشودة.

البعض يضع الملامة فقط على حكومات مستبدّة، ويرى الحلَّ فقط باعتماد الحياة السياسية الديمقراطية، بينما تجارب عربية حديثة، تؤكّد أنّ سقوط »حكم الاستبداد«، لا يعني أنّ البديل عنه سيكون أفضل، وبأنّ الحلَّ لا يكون فقط بالانتخابات، وباعتماد آليات ديمقراطية، حتّى يمكن تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.

كذلك الأمر، ما حصل حينما دعا البعض إلى شعار »الإسلام هو الحل«، وبأنّ وصول حركات سياسية دينية للحكم، سيخرج الأوطان من أزماتها، فإذا بهذه الأوطان والمجتمعات تزداد بعد ذلك تأزّماً وانقساماً.

أيضاً، هناك رأي مقابل في الفكر العربي المعاصر، يرى أنّ معظم مصائب الأمّة العربية، سببها التدخّل الأجنبي والقوى الخارجية، بينما تجارب النصف الثاني من القرن العشرين، تؤكّد أنّ العرب نجحوا في معارك التحرّر الوطني، وفي طرد المستعمر الأجنبي من بلادهم، لكنّهم فشلوا في بناء المجتمعات المدنية الحديثة، وفي تحصين الداخل الوطني من مشاريع ومؤامرات الخارج.

ربّما المشكلة هي في »أحادية التفكير والحلول«، وفي المراهنة على عنصر واحد من جملة عناصر تُكمّل بعضها البعض في عملية بناء المجتمعات الحديثة الناجحة. فممارسة الديمقراطية السليمة، تحتاج إلى توفّر مجتمعات مدنية متحرّرة من أي هيمنة خارجية، وقائمة على مرجعية الناس في الحكم والتشريع، وممّا يحقّق حرّية الوطن والمواطن معاً، وصولاً إلى العدل السياسي والاجتماعي، وبذلك يسود الاستقرار، ويتعزّز مفهوم المواطنة المشتركة.

لكنّ المشكلة أيضاً في المجتمعات العربية، هي في عدم التوافق على مسألتين، هما بمثابة مسلّمات ومنطلقات في المجتمعات الحديثة الناجحة: الهُويّة ودور الدين.

فحسم كيفيّة فهم هاتين المسألتين، هو الأرضية الأساسية لبناء أوطان عربية متقدّمة وموحّدة، ومن دون ذلك، سيبقى الخلل قائماً، والتصدّع محتملاً، في بنية ووحدة أي بلد عربي. فالإصرار على أولوية »الهُويّات« غير الوطنية والعربية، سيجعل ولاء بعض المواطنين لخارج وطنهم، وسيوفّر المناخ المناسب للتدخّل الأجنبي ولصراعات أهلية.

هذا ليس بموضوع جديد على منصّة الأفكار العربية. فهو موضوع لا يقلّ عمره عن مئة سنة، إذ منذ مطلع القرن العشرين، يدور التساؤل في المنطقة العربية تحديداً حول ماهيّة هويّة هذه المنطقة..

وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي بعد انتهاء الحقبة العثمانية، إلى دول وكيانات وفق اتفاقية »سايكس- بيكو«.

لكن ما حدث خلال القرن العشرين، أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقة العربية ما بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري. فالعروبة والإيمان الديني حالة متلازمة في المنطقة العربية، وهي مختلفة عن كل علاقة ما بين الدين والقوميات الأخرى في العالم الإسلامي. فقد كان على تركيا، لكي تبتعد عن الدين (وهو هنا الإسلام)، كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية، وأن تستبدل أبجديتها العربية باللاتينية.

وهذا المثال الذي حدث في تركيا، جعل الكثيرين من العرب، المتمسّكين بدينهم الإسلامي، يعتقدون أنَّ الحديث عن القومية العربية، يعني التخلّي أيضاً عن دينهم، قياساً على التجربة القومية التركية في مطلع القرن العشرين..

بينما الأمر يختلف من حيث خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام، فهي مسألة خاصّة بالعرب، لا تشترك معهم فيها أيّ قومية أخرى في العالم الإسلامي. فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية في العالم.

وكما صحَّ القول المعروف: »كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيتها الحرية«، فإنّ جرائم عربية عديدة، كانت تُرتكب باسم »الهويّة« الوطنية أو العربية... لكن، هل أدّت الجرائم باسم »الحرية« إلى التخلّي عن هذا الهدف النبيل والمطلب المشروع لكلِّ فردٍ وجماعة وأمَّة..؟!

لقد كانت »الهُويّة العربية« تعني - ولا تزال- القناعة بأنّ العرب أمَّة واحدة، تتألف الآن من أقطار متعدّدة، لكنها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وثقافياً وحضارياً واحداً، وتتكامل فيها الموارد والطاقات البشرية والمادية.

والمتضرّرون من تثبيت وتفعيل هذه »الهُويّة«، هم حتماً من غير العرب، الذين في الماضي، كما هم في الحاضر، يمنعون توحّد شعوب الأمَّة العربية، حفاظاً على مصالحهم في المنطقة، وعلى مستقبل استنزافهم لثرواتها. لكن دور الدين في الحياة العربية، هو سيفٌ بحدّين..

حيث من المهمّ التمييز بين ما في الإسلام وكل الرسالات السماوية من قيم ومبادئ هامّة جداً، في كلّ زمان ومكان، للإنسان الفرد وللجماعة، وبين أمور ترتبط بكيفيّة المعاملات والعبادات، والتي تختلف الاجتهادات حولها، حتّى داخل المذهب الواحد، فكيف مع مذاهب وطوائف أخرى؟!

لقد شهدت بعض البلاد العربية والإسلامية، تجارب لأنظمة حكم علمانية، لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم، والعدالة في المجتمع، فلم تفلح هذه التجارب في حلّ مشاكل دولها..

كما لم تمنع علمانية تركيا، من بروز التيّار الإسلامي ووصوله للحكم، إضافةً للتجارب العلمانية الفاشلة لأنظمة حزب البعث منذ مطلع الستينيات. أيضاً، فإنّ معالجة ظواهر العنف باسم الدين، لا يكون بالابتعاد عن الدين، بدلالة ظهور حركات العنف في أميركا وأوروبا على أساس ديني، رغم وجود الأنظمة العلمانية.

إنّ البلاد العربية، لكي تنهض وتتقدّم، بحاجة إلى فكر يقوم على رباعيّة عناصر، تجمع بين التأكيد على الهُويّة العروبية الحضارية، وعلى مرجعية القيم والمبادئ الدينية، وعلى بناء مؤسسات مدنية، تستهدف الوصول إلى مجتمع العدل وتكافؤ الفرص، وتقوم آلياتها على أسس ديمقراطية، وعلى منهج »العقلانية« في فهم النصوص، واعتماد المرجعية الشعبية في الحكم والقوانين.

 

Email