نحو إحياء قضية الأصالة والمعاصرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

فوجئت يوم الاثنين الماضي بمقال في جريدة الأهرام (6/6/2016) للمفكر والاقتصادي المرموق الدكتور سمير أمين بعنوان «نقد مفهوم الأصالة». هل عاد إذن موضوع »الأصالة والمعاصرة« يثير الاهتمام من جديد، بعد كل هذا الزمان الطويل؟

لقد ظل هذا الموضوع مدة طويلة في صميم اهتمامات المثقفين المصريين والعرب. وأذكر أنه في أواخر السبعينيات وطوال الثمانينيات من القرن الماضي، لم تنقطع المقالات والندوات والمؤتمرات المملوءة حماساً تؤكد أهمية صيانة التراث (أو التمسك بالأصالة)، أو بالعكس تدعو إلى نسيان هذا الأمر والتركيز بدلاً من ذلك على الأخذ بأساليب الحضارة الحديثة، وتتهم المتنكرين لها، أي »للمعاصرة«، بأنهم يحكمون علينا »بالخروج من التاريخ«.

لم يعد الأمر كذلك الآن، وبدا وكأن الموضوع لم يعد لسبب أو آخر يثير حماس كتابنا ومفكرينا مثلما كان يثيره من قبل. وهكذا بدت مقالة سمير أمين الأخيرة، وكأنها إحياء لموضوع ينتمي إلى الماضي السحيق. فما الذي حدث يا ترى ليسبب فتور الحماس لهذا الموضوع طوال العقدين الماضيين، وهل هناك ما يستدعي إثارته من جديد؟

الخلاف حول الأصالة والمعاصرة في بلادنا، كما نعرف، خلاف قديم يمكن أن نتبين بداياته من قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر منذ أكثر من قرنين. فقد تنبهت الأذهان فجأة إلى ما لابد أن ينتج عن هذا الاتصال المفاجئ بالحضارة الغربية الحديثة من تعارض بين ما تتطلبه مسايرة العصر الحديث والتكيف معه، وبين الولاء للتراث الذي يكون جزءاً أساسياً من ثقافتنا ويحدد هويتنا.

ثم حدث في سبعينيات القرن الماضي ما زاد النقاش حدة، بسبب ما اتخذه السادات في مصر، وحكام آخرون في بلاد عربية أخرى، من سياسة عرفت باسم »الانفتاح الاقتصادي«، إذ بدا لكثيرين أن خطر الارتماء في أحضان المعاصرة، بتهور واضح ودون ضابط، قد زاد عن الحد، إذ نجبر على التضحية أكثر فأكثر بالتراث كاللغة القومية وكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة، دون أن نكتسب المزايا الحقيقية للمعاصرة.

أدى ذلك إلى اشتداد حدة الحماس في الجانبين واستمر الاهتمام بقضية الأصالة والمعاصرة في الثمانينيات بسبب استمرار سياسة الانفتاح غير المنضبط وغير الإنتاجي، وانتشارها في بلد عربي بعد آخر.

مر منذ ذلك الوقت نحو ثلاثين عاماً، ضعف خلالها الحماس لإثارة هذه القضية، مما يمكن تفسيره بما حدث من انقسام في داخل كلا الفريقين، مما ألقى ببعض الشدة في صلاحية التسمية القديمة للخلاف (الأصالة والمعاصرة). ففي داخل التيار المدافع عن التمسك بالأصالة، مال فريق إلى التأكيد أكثر فأكثر على الجانب الميتافيزيقي في التراث..

وعلى الأخص على المحافظة على شعائر الدين، بينما مال فريق آخر إلى التأكيد على الجانب الاجتماعي، أو السوسيولوجي والأنثروبولوجي. كل من الفريقين رأى فيما بدأ يحدث في بلادنا منذ السبعينيات، نوعاً من التنكر للتراث.

ولكن كل منهما أكد خطورة التنكر لجزء معين من التراث أكثر من غيره. بل إن بعضاً من أهم المدافعين عن الأصالة حدث لهم تحول ملحوظ من التأكيد على الجانب الاجتماعي والاقتصادي إلى التركيز على الجانب الميتافيزيقي في التراث. من هؤلاء الكاتب الراحل عادل حسين، إذ بدأ احتجاجه على انفتاح السبعينيات بالتأكيد على آثاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية..

كما يظهر في كتاب مشهور له (الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية)، الذي نشر لأول مرة في سنة 1981، والذي بعده توجه سمير أمين نحو الأصالة والتراث، وزاد هذا الميل لديه أكثر فأكثر حتى وفاته في سنة 2001. لم يكن عادل حسين وحده في اتخاذ هذا الاتجاه. ومن السهل على القارئ أن يضيف أسماء أخرى مهمة لمثقفين مصريين بدأوا بداية عادل حسين نفسها؟ وانتهوا إلى ما انتهى إليه.

من الشيق أن نحاول تفسير هذا التحول. هل كان نتيجة لتدفق هجرة العمالة إلى دول الخليج، الأكثر تمسكاً بشعائر الدين وعودة المهاجرين إلى بلادهم بمفهوم جديد للأصالة، وتفسير معين للتمسك بالتراث؟ هل كان من أسباب هذا التحول أيضاً ما بدا من جاذبيته الموقف الجديد من حيث نجاحه الجماهيري المنتظر في ضوء ما نتج عن الهجرة من تحول في مشاعر الجماهير وفهمهم للتراث؟

هل كان هذا الانقسام، سبباً في خفوت أصوات كثيرة للأشخاص ساءهم أيضاً ما حدث من تنكر للتراث، ولكنهم رأوا الدفاع عن التراث يتخذ صورة أكثر فأكثر بعداً عن العقلانية، ويتبنى العنف بل والإرهاب وسيلة مزعومة للدفاع عما يعتبر أنه »التراث«، فيعتدي على أصحاب الديانات الأخرى، ويقتل الأبرياء بدعوى إعادة مجد الإسلام، مثلما نرى الآن في أعمال ما يسمى »بداعش« وأمثالها؟

ولكن الانقسام لم يحدث فقط في معسكر»الأصالة« بل حدث أيضاً في معسكر »المعاصرة« لقد اتخذ الانفتاحيون منذ السبعينيات مواقف تزداد قبحاً مع مرور الوقت، وتمثل تهديداً متزايداً لأبسط مقومات الاستقلال الوطني، سياسياً واقتصادياً، وازداد عبثهم باللغة العربية.

ومختلف صور التعبير الفني والالتزام الأخلاقي باسم التقدم والمعاصرة، وسمحوا لمختلف مظاهر المجتمع الاستهلاكي بتفكيك أواصر العائلة والعلاقات الاجتماعية وإضعاف الولاء للوطن، مما أثار سخط بعض أنصار المعاصرة والتحديث، ولكنهم خشوا أن يتخذ سخطهم، لو عبروا بقوة عنه، ذريعة لتقوية الفريق اللا عقلاني من المناصرين للأصالة.

 

Email