العقلاء وحدهم من يطفئ النيران

ت + ت - الحجم الطبيعي

لأن الذين ينظرون من ثقب الإبرة لا يرون إلا المساحة الضيقة التي يسمح بها هذا الثقب الصغير الذي ينظرون من خلاله، فقد استقبل البعض، الزيارة التاريخية التي قام بها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الأسبوع الماضي للفاتيكان، بالاستخفاف والاستهجان.

وقذفوها بشتى أصناف التعليقات التي تعودناها منهم، مقللين من دور الأزهر الشريف ومكانته، مدعين أنه لا يمثل العرب ولا المسلمين، شانين هجوماً على شيخ الأزهر والمؤسسة الدينية التي يمثلها، وقد ظهرت تعليقاتهم هذه على المواقع الإلكترونية التي تمثلهم، وتلك التي تتعاطف معهم وتروج لهم، ولا تفسح مساحة لصوت آخر سوى صوتهم.

ليس مستغرباً بالطبع موقف هؤلاء الذين تعودنا منهم مثل هذه المواقف، بل أكثر منها، فالأزهر الشريف ليس بحاجة إلى شهادتهم، لأنه قلعة الاعتدال والوسطية في العالمين العربي والإسلامي، ومواقف هؤلاء من الأزهر متوقعة، ومنسجمة مع وضعهم النفسي، بعد أن فشلوا في الاستيلاء عليه، والسيطرة على مشيخته، عندما سنحت لهم الفرصة للوثوب إلى السلطة في مصر العزيزة.

وبدؤوا تنفيذ خططهم التي أعدوا لها على مدى أكثر من ثمانين عاماً، مارسوا خلالها كل أشكال العمل السري، وتحالفوا مع أحزاب وأنظمة كانوا يعتبرونها فاسدة، وأحياناً كافرة، كي يصلوا إلى اللحظة التي يقفزون فيها إلى كرسي الحكم، وعندما قفزوا إليه واستولوا على السلطة، انكشفت خططهم، وبدت للعيان نواياهم، فسعوا إلى فرض هيمنتهم على كل شيء.

ونجحوا في الاستيلاء على مؤسسات كثيرة، إلا الأزهر الشريف، الذي تصدى شيوخه ورجاله المخلصون لهجمتهم الشرسة، واستطاعوا أن يفشلوا كل محاولاتهم للاستيلاء عليه، ليبقى الأزهر شامخاً كما كان دائماً، صامداً أمام الطوفان الذي كاد يغرق مصر، حتى انجلت الغمة، وانزاحت عن مصر الأزمة التي كتمت الأنفاس عاماً كاملاً.

هذا هو الأزهر، الذي قالوا إنه لا يمثل العرب ولا المسلمين، أما شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، فقد كالوا له من الشتائم الكثير، ورموه بأبشع الأوصاف، لا لشيء، سوى أنه وقف في وجه المد الإخواني الذي كان يجتاح كل المؤسسات خلال الفترة التي قفزوا فيها على السلطة في مصر، وأفشل كل خططهم في تحويل الأزهر الشريف إلى مؤسسة تدار من مكتب الإرشاد، وتأتمر بأمر المرشد، كما كان يفعل رئيس الجمهورية.

لذلك، كانت الهجمة على زيارة شيخ الأزهر للفاتيكان، ولقائه مع البابا فرانسيس، بحجم الأسى الذي يشعرون به بعد فشل مخططهم للاستيلاء على السلطة، وفرض هيمنتهم على الأزهر الشريف، وتحويله إلى مؤسسة من مؤسساتهم، لتكتمل سيطرتهم على مفاصل الحياة الدينية والمدنية.

زيارة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب للفاتيكان، ولقاؤه مع البابا فرانسيس يوم الاثنين الماضي، بعد عشر سنوات من العلاقات المتوترة بين المؤسستين الدينيتين الكبيرتين، يبعث رسالة ذات دلالات مهمة، في إطار الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية ومؤسسة الأزهر الشريف الإسلامية.

وهي رسالة تكتسب أهميتها من الظرف الذي يحدث فيه هذا اللقاء بين أكبر قطبين يمثلان الديانتين الأكبر، وهو ظرف يجتاح فيه العنف العالم، ويغدو من المهم فيه، أن نؤكد أن الديانات السماوية بريئة مما يحاول أن يلصقه بها البعض من تطرف، وحض على العنف وكراهية الآخر، كما أنها بريئة من هؤلاء الذين يتخذون منها غطاء لسفك الدماء، وقتل الأبرياء، ونشر الدمار في كل بقعة من بقاع الأرض.

«إن الرسالة من هذا الاجتماع، هي لقاؤنا بحد ذاته». هكذا وصف البابا، زيارة شيخ الأزهر للفاتيكان، ليؤكد أن للزعامات الدينية دوراً في إزالة الخلافات بين أتباع الديانات المختلفة، وهو ما لم يفعله سلفه البابا السابق «بنديكت السادس عشر»، عندما تطرق في محاضرة ألقاها في شهر سبتمبر من عام 2006 بألمانيا، لموضوع «آيات القتال» في القرآن.

واستشهد بنص تاريخي لحوار بين الإمبراطور البيزنطي وأحد المفكرين الفارسيين، يربط فيه بين الإسلام والانتشار بالسيف، ما أثار استياء الأزهر الشريف حينها، وأدى إلى تجميد الدكتور سيد طنطاوي، شيخ الأزهر السابق، الحوار مع الفاتيكان، ليعاود البابا نفسه تكرار الخطأ عام 2011، فيطالب بحماية المسيحيين في مصر، عقب حادثة كنيسة القديسين في الإسكندرية، الأمر الذي اعتبره شيخ الأزهر الحالي، الدكتور أحمد الطيب، تدخلاً في الشؤون المصرية.

لذلك، فإن زيارة الدكتور الطيب للفاتيكان، ولقاءه مع البابا فرانسيس، يؤسسان لمصالحة بين المؤسستين الدينيتين الكبيرتين، بعد عشر سنوات من القطيعة، ويقطعان الطريق على كل من يحاول الاصطياد في المياه العكرة، مؤججاً الصراع والخلاف بين الأديان، ومقدماً المزيد من الزيت لصبه على النيران المشتعلة حول العالم.

هذه النيران التي يغذيها المتطرفون المستفيدون من هذه الصراعات، في الوقت الذي يدفع فيه البسطاء والأبرياء من الشعوب ضريبة هذه الصراعات، ويكتوون بنارها.

أيّاً كانت النتائج التي أسفرت عنها زيارة شيخ الأزهر للفاتيكان، فإنها تؤسس لحوار جديد بين الأديان، وتبني تحالفاً ضد التعصب والتطرف والإرهاب الذي يُمارَس باسم الأديان، كما أنها توجه ضربة لأصحاب نظرية صراع الحضارات، التي روج لها «صامويل هنتنغتون» في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي.

وجاءت الألفية الثالثة، بكل الأحداث التي زعم مفجروها أنهم يتحدثون باسم الدين، وأعني بها أحداث 11 سبتمبر 2001، لتنحاز إلى نظريته، لأن الذين يشعلون نيران هذه الصراعات، هم المجانين من مختلف الأديان، والعقلاء وحدهم هم من يعملون على إطفائها، وإعادة عجلة الحياة إلى مسارها الصحيح، كي تستقيم المعادلة.

Email