التسوية وشهوة الاستيطان.. ضدان لا يلتقيان

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا لم تبدأ أي محاولة لاستئناف مفاوضات التسوية الفلسطينية باتفاق مسبق على وقف النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة المحتلة، فلن يكتب لها النجاح. سعار الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس وأكنافها بخاصة، هو المسؤول الأول عن فشل كل الجولات التفاوضية السابقة. وينبغي الإقرار بأننا إزاء شرط شبه مستحيل.

من تقاليد الغزوة الصهيونية الاستعمارية، أن يسير التوسع الاستيطاني في الأرض الفلسطينية من ناحية، واستقطاب المهاجرين الجدد إلى هذه الأرض، مع التضييق على سكانها الأصليين إلى حدود الطرد من ناحية أخرى، بشكل متضافر ومتعامد.

الإعلانات عن بناء مجمعات سكنية ومشروعات للبنى التحتية في المستوطنات القائمة أو في مناطق مرشحة للتوسع الاستيطاني، لم تتوقف إطلاقاً خلال هذه المراحل.

السياسات الإسرائيلية في تسعينيات القرن الماضي تبدو مثالية. إذ شهد ذلك العقد تدفق زهاء 100 ألف مهاجر سنوياً، وبخاصة من دول الاتحاد السوفييتي السابق. وكانت المفارقة وقتذاك في تزامن هذه الظواهر مع انطلاقة عملية التسوية. ولو كانت النيات الإسرائيلية حسنة تجاه تلك الانطلاقة، لحدث العكس، أي لهبطت وتائر الهجرة والاستيطان.

ومع أن هذا التزامن كان نذير شؤم على ما يبيت المفاوض الإسرائيلي، بما كان يوجب وقفة حازمة رافضة من جانب المفاوض الفلسطيني، إلا أن هذه الوقفة، تحت شعار استحالة الجمع بين الاستيطان والسلام، التي نشهد بعض تجلياتها راهناً، جاءت متأخرة كثيراً.

وسواء جاء هذا التأخر عن سوء تقدير في توقع النيات الإسرائيلية الحقيقية من وراء التفاوض واستهلاك الوقت، أم عن جهالة بأصول التفاوض الجاد وتحديد الأولويات، فإنه أضر بالموقف الفلسطيني.

نسترجع ذلك كله، بمناسبة ما نلحظه من تحول في المقاربة الإسرائيلية لقضية التوسع الاستيطاني خلال السنوات الأخيرة. فمعدل الهجرة إلى إسرائيل، تراجع على نحو ظاهر، فيما ارتفع منسوب البغي الاستيطاني بمعدلات قياسية.

البيانات الصادرة عن دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، تشي بتراجع مذهل في أعداد المهاجرين اليهود الوافدين إلى إسرائيل، قياساً بسنوات التسعينيات السمان. ومع ذلك، ما زالت مشروعات البناء والإسكان وإجراءات مصادرة أراضي الفلسطينيين وتهويد القدس، قائمة لم يمسسها سوء.

ضمن المعاني التي يمكن استخلاصها في هذا الإطار، غياب الحاجة الملحة سكانياً، فهكذا تضخم في المباغتات العدوانية الاستيطانية. ويتأكد هذا الفهم في ضوء ظاهرة أخرى لافتة، هي توفر المساحات اللازمة لاستيعاب الزيادة السكانية لليهود، الناشئة عن التكاثر الطبيعي أو عن تدفق المهاجرين الجدد.

إسرائيل الدولة بمساحتها قبل عام 1967، داخل ما يسمى بالخط الأخضر، قادرة على الوفاء بحاجات هذه الزيادة، علماً بأن أكثر من نصف هذه المساحة ما زال غير مأهول بالمرة تقريباً؟ الأمر إذاً يتعلق بسياسة مقررة لضم مزيد من الأراضي المرشحة للدولة الفلسطينية، واستكمال عمليات الإطباق على القدس الشرقية وعزلها كلياً عن محيطها الفلسطيني الأم؟.

ربما عاد التوحش الاستيطاني الإسرائيلي إلى هذا السبب أو ذاك، وقد لا يكون ثمة رابط مباشر بين هذا التوحش، وبين عدد الوافدين والمغادرين لهذه الدولة، وإنما تكمن العلة في أن الاستيطان التوسعي من الخصائص الجوهرية الأصيلة، التي لا نية لدى الدولة الصهيونية في التخلي عنها.

الشاهد أن إسرائيل بسياساتها الاستيطانية، لا تدع مجالاً لغير الشكوك في توجهاتها السلمية، وأن هذه السياسات هي البرهان الأقوى والأكثر سطوعاً وحجية على أن المشروع الصهيوني في الشق الأهم من صورته وتصوراته الأولى ما زال فواراً. ونحسب أنه بدون رد فعل مؤلم وصارم، فليس ثمة ما يدعوا إلى التفاؤل تجاه مصير عملية التسوية.

Email