بين ثقافة التفكير وثقافة التسلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ زمن طويل، والباحثون والمفكرون والفلاسفة وعلماء الإنسان يتناولون مسألة الثقافة بالتعريف والتحليل. وما زال هذا المفهوم موضوعاً للنظر والدراسة.

وآية ذلك، أن الكائن الإنساني هو في نهاية الأمر كائن ثقافي، بل إن الثقافة هي نمط الوجود الإنساني، سواءً كانت الثقافة جملة العادات والتقاليد والقيم والمعتقدات، أو كانت جملة المعارف التي يبدعها الإنسان، أو جملة أدوات الحياة التي يستعملها البشر بفضل العلم والتقنية.

ولأن الثقافة على هذا النحو من الشمول، فإنها لا تنفصل عن السلوك الإنساني، فالسلوك الإنساني هو الثقافة، وقد تحققت على الأرض.

ولما كان هذا هو شأن الثقافة بارتباطها بالإنسان، فإن جعلها موضع اهتمام، يعني جعل الفرد في مكان الصدارة من الاهتمام.

وهناك نمط من الثقافة مرتبط بطريقة التفكير، حتى ليمكن القول دون تردد: إن عقل الفرد هو ثقافته. فالعقائد كلها طريقة تفكير وتظهر في السلوك، والأفكار ثقافة والعلم ثقافة، كل خطاب هو ثقافة، فالعقائد والأفكار والخطابات، تشكل الوعي البشري، فضلاً عما يتوارثه الإنسان من قيم. والثقافة بوصفها وعياً، هي التي تكون الذهنيات البشرية.

فخطاب نفي المختلف وقتله والمتكئ على تأويل حكم هنا وحكم هناك، يخلق عند بعض الناس ثقافة النفي والقتل، وبالتالي، يخلق طريقة في وعي الآخر.

وقس على ذلك، خطاب الشعوذة يخلق وعياً مشعوذاً، فيصير ذهاب المريض إلى المشعوذ أهم من الذهاب إلى الطبيب، وهكذا.

من هنا، تبرز أهمية نشر ثقافة التسامح والمحبة والاعتراف بالآخر، والعلم والقانون واحترامه، وكل معرفة من شأنها تطوير قدرة الإنسان على التفكير العقلي والإنساني. ويجب استخدام وسائل التواصل لتحقيق غاية كهذه.

لكن الملاحظ، وعلى امتداد العالم، النزوع في وسائل الاتصال المرئي والمسموع والمقروء، نزوع العقل الاستهلاكي نحو إشاعة ثقافة التسلية.

وثقافة التسلية بالتعريف، هي تلك الثقافة التي لا تضيف وعياً جديداً إلى الإنسان، وهدفها قتل الوقت، ومنح الفرد شكلاً من المتعة عابراً. وهذا النوع من الثقافة، نجده على نحو فج في برامج إذاعية عربية، وعلى شاشات التلفزيونات وفي الصحف.

تأمل معي أيها القارئ العزيز، تلك البرامج المتعلقة بما يسمى أبراج البشر، والتي يطل منها، في كل وسائل التواصل، المشعوذون والمشعوذات، ليحدثوننا عن مستقبلنا، ومستقبل عواطفنا، أو انظر إلى ما يسمى بالفلكيين، وهم يصوبون ويجولون على شاشات التلفزيون، ليخبرونا بوقائع القادم من الأيام، أو انظر إلى المذيع الذي يتواصل مع المستمعين ليسألهم عن اسم المدافع في هذا الفريق الرياضي لكرة القدم هذا أو ذاك، وما الفريق الذي فاز في هذه البطولة أو تلك.

والأخطر مما سبق ذكره، شيوع أغنية التسلية التي تفسد الذوق الفني الجمالي للفرد، وتجعله محدود الثقافة الموسيقية التي تسمو بروحه، فإذا أنت أمام كلمات مبتذلة، وموسيقى ليست بالموسيقى، وصوت يخدش السمع.

ولا شك أن شيوع محطات البث التلفزيوني الخاصة، والتي تنتشر الآن بدافع الربح، ظاهرة من أخطر الظواهر على الثقافة، فالناس تغريهم ثقافة التسلية، وبخاصة جيل الشباب، وتقوم هذه المحطات التلفزيونية المبتذلة بإشغال الناس على امتداد اليوم، ببرامج خلاعية، وأغانٍ مبتذلة، ومسابقات ربح بدافع جني المال من أجور التواصل التليفوني، وهكذا....

وقائلٍ يقول: إن الحياة ليست كلها جَد، إذ إن النزوع إلى المتعة من سمات البشر، وهذا كلام حق، ولكن من قال إن إنجاب المتعة لدى البشر وقفاً على ثقافة التسلية المبتذلة.

 فعرض فيلم سينمائي يطرح مشكلات الإنسان بحرفية فنية، يقوم بدور إنجاب المتعة والفائدة العقلية معاً، وقِس على ذلك ما يمكن أن تفعله المسلسلات المتعلقة بحياة البشر اليومية، والمسابقات المعبرة عن مدى اكتساب الفرد للمعارف العلمية والتاريخية، تزود المشاهد بما ليس بمعروف.

أما الموسيقى والأغنية المهذبة للروح الإنساني، ليست أمراً عائداً إلى التسلية، بل إلى إنجاب المتعة التي ترتقي بالإنسان.

بقي أن نقول إن الثقافة ليست بالمسألة الثانوية، بل تقع في صلب حياة البشر، فكثير من الذين تربوا على ثقافة التسلية، هم الآن في صفوف الحركات العنفية - الإرهابية من كل الأنواع، فليس هناك أسهل من اصطياد إنسان فاقد الروح والعقل.

Email