نتانياهو يجتاح المبادرات

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يستطيع أحد أن يشكك في النوايا الحسنة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في إطلاقه لمبادرته السياسية الأخيرة لتحقيق وضعية جديدة تساعد على إمكانية تحقيق السلام المنشود والمفقود في الشرق الأوسط، تجلى ذلك في حديثه المباشر إلى الفصائل الفلسطينية بضرورة تحقيق المصالحة وللقيادة والأحزاب الإسرائيلية بضرورة العمل على تحقيق السلام مع الفلسطينيين، مستنداً في هذا إلى تجربة السلام المصرية الإسرائيلية الصامدة منذ توقيع معاهدة الصلح بين البلدين عام 1979.

أهم الدلالات في هذه التصريحات أو المبادرة، أياً كانت التسمية، أنها المرة الأولى على وجه التقريب التي يكشف فيها الرئيس السيسي منذ ظهوره على المسرح السياسي في مصر عن انتصاره لخيار السلام وللتفاوض مع إسرائيل وصولاً إلى سلام شامل في المنطقة بما يحقق الاستقرار ويساعد التنمية في كل دول المنطقة.

ليس هذا فحسب، ولكنها على وجه التقريب أيضاً المرة الأولى التي يذكر فيها الرئيس السيسي كلمة »إسرائيل« صراحة في أحد خطاباته المتلفزة وهو الذي تجنب ذكرها تماماً من قبل ولم يتحدث عنها من قريب أو بعيد..

وإن كانت مصر قد أعلنت في أكثر من مناسبة منذ توليه رئاسة البلاد عن تمسكها بخيارها التاريخي المؤيد للشعب الفلسطيني ولقضيته العادلة باعتبارها قضية العرب الأولى منذ نحو المائة عام، والمثير في الأمر كذلك أن هذه التصريحات جاءت في سياق مختلف تماماً وفي إطار مناسبة ذات طبيعة خاصة لم يكن أحد يتوقع أن الرئيس السيسي سيطرح خلالها هذه المبادرة المفاجئة.

وأغلب الظن أيضاً أن الرئيس السيسي ما كان ليقدم على مثل هذه الخطوة وطرح تلك المبادرة من دون أسانيد أو خلفيات أو اتصالات أو ترتيبات قد لا تبدو واضحة في العلن في الوقت الراهن ولكن تطورات الأحداث في المرحلة المقبلة قد تكشف عن طبيعة الاتصالات والترتيبات التي سبقت إطلاق السيسي لمبادرته.

ولا ينبع هذا التحليل كذلك من فراغ ولكن من طبيعة تحركات وتصرفات الرئيس السيسي ذاته، حيث يغلب عليها الكتمان الشديد وكثيراً لا تظهر مبادراته في العلن إلا بعد ما تتحول إلى حقائق على الأرض، وهذا ما يرجح وجود خطوات واتصالات عديدة سبقت إطلاق مبادرته لضمان نجاحها أو قبولها على أقل تقدير.

وكما سبق الذكر فإنه لا مجال للتشكيك في النوايا الحسنة لدى الرئيس السيسي في إطلاقه لهذه المبادرة ورغباته الجادة وتطلعاته المخلصة لإقامة شرق أوسط أكثر استقراراً وأمناً وأماناً من خلال عملية سلام شاملة تغلق ملف الصراع للأبد.

القلق الأكيد يكمن في النوايا الإسرائيلية التي لم تصدق مع الفلسطينيين على الإطلاق ولم تلتزم بتنفيذ ما جاء في اتفاقيات وتعهدات كثيرة بمنحهم حقوقهم المشروعة، بل كانت الهمجية والعدوانية والشراسة الإسرائيلية كثيراً ما تنطلق ضد الشعب الفلسطيني وقياداته وتعمل فيهم آلة القتل والاعتقال والتدمير بما جعل الحديث عن سلام حقيقي أمراً مستبعداً.

وفي ضوء الظروف الجارية والتجارب الكثيرة للفلسطينيين مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة يبدو الترحيب الإسرائيلي الكبير بتصريحات الرئيس السيسي مثيراً للقلق..

فهناك خوف مشروع من استغلال إسرائيل لهذه المبادرة بانتهازيتها المعهودة للتهرب من استحقاقات السلام المنشود، بل إنها قد تتمسك بها على أساس أنها تفتح الباب للمفاوضات المباشرة التي تعتبرها إسرائيل السبيل الوحيد لتسوية الصراع مع الفلسطينيين. لتقطع بذلك الطريق على المبادرة الفرنسية التي تهدف إلى عقد مؤتمر دولي ينتهي بإقامة الدولتين ..

وهو ما ترفضه إسرائيل تماماً حتى لا تتعرض لضغوط المجتمع الدولي وهي التي نجحت في بترها منذ اتفاقات أوسلو، ويبدو أنها بالفعل نجحت في ذلك بالضغوط الأميركية التي أدت إلى تأجيل انعقاد لقاء باريس للصيف المقبل وربما يُلغى حتى إشعار آخر..

وفي المقابل وحتى لا تصبح إسرائيل في موقع الرافض للسلام، فإنها تتلقف مبادرة الرئيس السيسي لإبداء حرصها على التفاوض وتنخرط ومعها المنطقة بذلك في دوامة جديدة من الفرص المهدرة.

ويعكس بيان وزارة الخارجية الفلسطينية حول انضمام حزب »إسرائيل بيتنا« برئاسة المتطرف أفيجدور ليبرمان إلى حكومة نتانياهو الشيء الكثير من هذا القلق، حيث اعتبرته تأكيداً جديداً على غياب شريك السلام الحقيقي في إسرائيل..

وعلى صحة التوجه الفلسطيني لتدويل القضية وأكدت الوزارة أن هذا القرار يشكل رد نتانياهو على الجهود الفرنسية والدولية والإقليمية الرامية إلى إحياء عملية السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ويبعث برسالة قوية للعالم بأن إسرائيل تفضل التطرف..

وتكريس الاحتلال والاستيطان على السلام، مطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته السياسية والأخلاقية والقانونية تجاه الشعب الفلسطيني وحقوقه.

وخلاصة القول إذن أن ما طرحه الرئيس السيسي هو مبادرة جادة تستحق التأييد والدعم الإقليمي والدولي شريطة وجود آذان صاغية تستجيب لها وتحولها إلى واقع عملي وملموس بدلاً من اعتبارها فرصة لمزيد من المناورات والهروب من استحقاقات السلام، وقد تجلى ذلك بالفعل في تعامل نتانياهو مع المبادرة الفرنسية ونسفها على وجه التقريب مما يشجعه على اجتياح جميع المبادرات.

 

Email