ماذا قال طاغور في القاهرة منذ تسعين عاماً؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

عادت إلى الأذهان، ذكرى الشاعر الهندي العظيم، رابندرانات طاغور، بما أقامته الهند، في الأسبوعين الماضيين من احتفالات في مصر، بمناسبة ذكرى مولده في 7 مايو 1861.

لم يكن طاغور شاعراً عظيماً فحسب، بل كان أيضاً رجلاً حكيماً جداً. من ألطف ما قرأت عنه، ويدل على حكمته، ما كتبه إلى صديق له إنجليزي، تعليقاً على حصول طاغور على جائزة نوبل في الأدب في 1913.

كان طاغور أول آسيوي يحصل على جائزة نوبل في أي فرع من فروع المعرفة على الإطلاق، فلا عجب أن أحيط الرجل بمختلف مظاهر التكريم والتبجيل، احتفالاً بهذا الفوز العظيم. ولكنه، كما هو متوقع من رجل مثله، رأى في هذه الضجة الكبيرة، إلى جانب ما تثيره من سرور، ما يدعو أيضاً إلى السخرية، إذ يلتفت الناس إلى الرجل وإنجازاته بسبب الجائزة، أكثر بكثير مما التفتوا إليه قبلها.

ما يذكرنا أيضاً بما حدث عندنا مع نجيب محفوظ، إذ أصبحت معاملة المصريين له بعد حصوله على جائزة نوبل، مختلفة جداً عما كانت قبله، ولاحظ نجيب محفوظ ما أحدثته الجائزة من اهتمام زائد لدى الناس، فقال مرة «إنني أصبحت موظفاً عند نوبل!».

أما طاغور، فقد كتب إلى صديقه الإنجليزي معلقاً على ما أثير حوله من ضجة، أن حالته تشبه حالة كلب قام البعض بربط ذيله بعلبه فارغة من الصفيح، فإذا به يحدث ضجيجاً هائلاً كلما جرى، وأينما ذهب. لقد رأى طاغور في الجائزة شيئاً منفصلاً تماماً عن نفسه وعن قيمته الذاتية، وأن دلالة هذه الجائزة على هذه القيمة الذاتية، تشبه حجم ما تحدثه علبة الصفيح من ضجيج، كلما تحرك الكلب من مكانه.

وقد قامت جريدة الأهرام مشكورة (في عدد 17 مايو الماضي)، بنشر صفحة كاملة عن زيارة قام بها طاغور لمصر منذ تسعين عاماً (في ديسمبر 1926)، والتقى خلالها ببعض المفكرين المصريين البارزين، كأحمد شوقي وطه حسين والشيخ مصطفى عبد الرازق، ونشرت الأهرام بعض ما نشرته الصحف المصرية عن هذه الزيارة، ومن بينه، حديث نشرته صحيفة السياسة الأسبوعية.

وتضمن كلاماً بديعاً عن رأيه في الدين، هو ما دفعني إلى كتابة هذا المقال، إذ إن مثل هذا الكلام نادراً ما يقال الآن، وسط ما نسمعه الآن يومياً عن الدين والتدين، ولا يدل إلا على تعصب ذميم، أو ضحالة في الفكر أو كليهما.

قالت الصحيفة منذ تسعين عاماً، إن «أحدنا» سأل طاغور: «ألم يفكر في توحيد ما بين المسلمين وغيرهم من أهل الهند من الناحية الدينية، بأن يتوحد مذهب أولئك وهؤلاء في الدين مثلاً؟ فكانت إجابة طاغور (طبقاً لما نشرته السياسية الأسبوعية) كما يلي، (وقد ذكرت الجريدة أنه أدلى بهذه الإجابة «في قوة وشدة»).

«كلا، ما فكرت في ذلك، وما ينبغي أن يفكر فيه أحد.. وهو إن تحقق، يضر أكثر مما ينفع، ولا يعود على الإنسانية إلا بالخسارة الشديدة.

فأنتما تعلمان أن الدين هو لون من ألوان التعبير الإنساني عن العواطف والميول والمثل العليا، وأن هذا اللون من ألوان التعبير، متصل أشد الاتصال بأمزجة الأفراد والأمم، ممثل لها تمثيلاً صادقاً قوياً. فمن الثروة للإنسانية (أي مما يثريها)، أن تحتفظ بهذه الألوان المختلفة التي عبرت بها الأمم والشعوب عن عواطفها وميولها إلى الحق الذي لا حد له.

ومن يحاول محو دين من هذه الأديان، إنما يبدد بنوع ما (بشكل ما)، شيئاً من هذه الثروة القيمة التي يجب أن تحرص عليها الإنسانية، وهو طريق من الطرق التي تسلكها الإنسانية إلى الجمال والحق والمثل العليا».

واستطردت الصحيفة: «قال أحدنا: ولكنك ترى من غير شك، أن الإنسانية في حاجة إلى أن يتحد مثلها الأعلى، وإذا تستطع الديانات أن تمثل هذا المثل الأعلى المشترك، فما السبيل إليه؟».

فأجاب طاغور:

«إن المثل الأعلى للإنسانية، يجب أن يكون واحداً، ويجب أن يكون مشتركاً، وهو هذه الحقيقة المطلقة التي لا حد لها، ولا سبيل إلى استيعابها. ولن يؤثر اختلاف الديانات في هذا المثل الأعلى، من حيث أنه واحد مشترك، تتعاون الإنسانية كلها على طلبه والسعي إليه.

ذلك، أن هذا المثل سيظل واحداً، وإن اختلفت الطرق إليه، وما الديانات المختلفة إلى طرق متباينة، ولكنها متحدة الغاية، تنتهي كلها إلى هذا المثل الأعلى المشترك... وما دامت الديانات كلها سبلاً إلى هذه الحقيقة المطلقة، وما دامت في الوقت نفسه متصلة أشد الاتصال بأمزجة الأفراد والجماعات؟، تمثلها أقوى تمثيل وأصدقه، فلا حيز مطلقاً في محاولة محو بعضها أو إضعافه، أو تقوية بعضها دون بعض.

وإنما الخير كل الخير، أن تترك للأفراد والأمم، الحرية الدينية، التي تمكنها من أن تعلن شعورها وعواطفها وطموحاتها إلى المثل الأعلى كما تريد، وكما تستطيع. ذلك يغني الإنسانية ويضاعف ثروتها المعنوية».

Email