ماذا حدث للقومية العربية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

سوف يتذكر كثير من القراء، تلك الحادثة المخزية التي وقعت في أواخر عهد مبارك، عندما تشاجر فريق كرة القدم المصري مع الفريق الجزائري، في أعقاب مباراة مهمة بينهما، كانت تجري في القاهرة، واشتد فيه غضب الفريق المهزوم، وأدى ذلك إلى تصاعد المشاعر العدائية في الجانبين، وانتشر هذا الشعور العدائي لعدة أيام بين أفراد الشعب المصري والجزائري على السواء.

كانت حادثة مخزية، بسبب عجز أعضاء أي من الفريقين التمييز بين نتيجة مباراة في كرة القدم، وبين المشاعر الثابتة التي يتوقع أن تسود بين الشعبين المصري والجزائري، لأسباب تاريخية وقومية عديدة، لا تحتاج إلى تذكير القارئ بها. ثم أصبحت مخزية أكثر، عندما عجز نظام الحكم في مصر، عن إدراك ضرورة هذا التمييز..

وقد كتبت وقتها مقالاً أعلق فيه على ما حدث، وصفت فيه ما حدث بأنه يشبه عراكاً بين صبية من أسر مختلفة، كان من المفروض أن يدرك آباؤهم وأمهاتهم طبيعته، فيتدخلوا بالحسنى للصلح بينهم، فإذا بهم يتصرفون مثل تصرف الصبية أنفسهم.

في اليوم التالي، التقيت ببعض طلبتي في الجامعة الأميركية، وأردت أن أبين حقيقة شعورهم نحو قضية القومية العربية، فصدمت بشدة، إذ وجدت بعضهم وكأنهم يسمعون عن القومية العربية لأول مرة، وأنهم استغربوا موقفي بدورهم.

ولكني سرعان ما تبينت أن هناك أسباباً مفهومة تماماً لاختلاف موقفهم عن موقفي. لقد نشأت أنا وترعرعت على فكرة القومية العربية، ونشؤوا هم وشبوا على عكسها. ولكن الفهم شيء والتعاطف شيء آخر. نعم، إني أفهم لماذا يتخذ كثير من الشباب العربي اليوم هذا الموقف السلبي من القومية العربية، ولكني لا أتعاطف مع هذا الموقف بتاتاً، بل وأعتبره تدهوراً لا شك فيه، ليس فقط من ناحية المصلحة السياسية للعرب بوجه عام، بل وحتى من الناحية الأخلاقية، إذا جاز هذا التعبير.

إني أفهم العوامل التي أدت إلى ما أصاب الشعور القومي العربي من ضعف، منها تصرفات الساسة العرب، واحداً بعد الآخر، في أعقاب هزيمة 1967، ومنها الفشل العربي في تحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية منذ ذلك الوقت، ما ساهم في إضعاف شعور الشباب العربي بأي نوع من الانتماء، يتجاوز مشاريعهم الخاصة.

ومن هذه العوامل، ما وجه للقومية العربية من هجوم ونقد من مختلف القوي الخارجية المعادية لها، فضلاً بالطبع عن مرور هذا الوقت الطويل، الذي يزيد على نصف قرن، دون أن تحرز دعوة القومية العربية أي تقدم، أما أن هذا التطور مؤسف للغاية من وجهة نظر المصلحة العربية السياسية والاقتصادية، فتكاد أن يكون بديهياً، ولا يحتاج إلى بيان. ولكن ما قد يحتاج إلى بيان، هو الأسباب الأخرى لهذا الشعور بالأسف.

ومع ذلك، فإني أميل إلى الاعتقاد بأن أقوي دفاع عن القومية العربية. هو أن الولاء لها هو شرط أساسي لتحقيق هذه الأمة (التي هي الأمة العربية)، أي مساهمة للحضارة الإنسانية. ذلك أن التنكر للقومية العربية لا بد أن يؤدي في رأيي إلى التضحية بكل مظاهر القوة الحقيقية التي يمتلكها العرب. قوة اللغة والثقافة العربية، التي ساهم فيها الدين بنصيب كبير..

ولكنها لا ترجع إلى الدين وحده. إن استمرار التجزئة والفرقة بين البلاد العربية، لا بد أن يزيد العرب ضعفاً على ضعف، ومن ثم، يضعف الأمل في أن يسهم العرب بأي نصيب في الحضارة الإنسانية. كما أن الانشغال الراهن بالمطامح الاقتصادية، سواء للفرد العربي أو للدولة العربية الصغيرة، لا بد أيضاً أن يضعف الأمل في تحقيق هذه المساهمة.

عندما يخطر لي هذا، كثيراً ما أتذكر تحفظ المؤرخ البريطاني الشهير «أرنولد تويبني»، في حكمه على التجربة اليابانية في اللحاق بالغرب، إذ قال إن هذه التجربة كانت للأسف مقلدة (MIMETIC)، وليست خلاقة.

كان تويبني بلا شك، لا يعتبر ما أحرزته اليابان من تقدم اقتصادي، سمح لها بأن تصبح نداً للغرب، عملاً خلاقاً بدرجة كافية، يؤهل اليابان لتقديم مساهمة حقيقية للحضارة الإنسانية. لا يمكن لأحد بالطبع أن ينكر أن التقدم الاقتصادي شرط أساسي من شروط النهضة لأي أمة، ولكن الهدف النهائي، لا يجب أن يكون اقتصادياً بحتاً.

إذا كان هذا التحليل صحيحاً، فهل لنا أن نتساءل عما إذا كانت لا زالت هناك فرصة لإحياء فكرة القومية العربية، في هذا العالم، الذي تزيد فيه سيطرة الأهداف الاقتصادية على حياتنا يوماً بعد يوم؟.

 

Email