يقظة العرب بين النظرية والواقع

ت + ت - الحجم الطبيعي

إني أنتمي لجيل من المصريين آخذ في الانقراض، بسبب تقدمه في السن، ولكني أعتقد أننا لدينا أشياء مهمة يجب أن نقولها للأجيال الأصغر سناً. وقد رأيت أن ما يحدث في البلاد العربية الآن يستوجب قول بعض هذه الأشياء.

كنت في السابعة عشرة من عمري عندما قامت في مصر ثورة 1952، وقبلها بقليل قامت انقلابات في سوريا، ثم في العراق ولبنان والأردن، سمي بعضها بالثورة. ولكن أيا كان الاسم فقد كان هذا عصر الانقلابات والثورات، وكانت هناك أسباب كثيرة تجعلنا نتحمس بشدة لها، ونأمل الخير منها.

كان من بين هذه الأسباب بالطبع صغر سننا (فلا زلت أذكر أن آباءنا كانوا أقل انفعالاً منا بهذه الثورات، وأكثر استعداداً للشك فيها). ولكن كانت هناك أيضا أسباب وجيهة جدا للتفاؤل تتعلق بمنطقتنا من العالم، وبالعالم ككل، بصرف النظر عن سننا.

كانت البلاد العربية حديثة العهد بالاستقلال. كان الحصول على الاستقلال كافيا للاعتقاد بأن أمامنا مستقبلا مفتوحا يمكن أن نحقق فيه آمالنا في التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وقد حدث في كل البلاد العربية تقريبا، في ذلك الوقت، ما يقوي هذا الشعور بالتفاؤل: نوع جديد من الحكام أصغر سناً وأشد عزماً.

صحيح أنه كان قد حدث قبل ذلك بسنوات قليلة( 1948) أن أعلن عن قيام دولة إسرائيل على أنقاض دول عربية وتشريد شعب عربي، ولكن هذا لم يفت في عضدنا، بل اعتبرناه بمثابة سحابة عابرة سرعان ما تزول.

لقد ظللنا نصف إسرائيل بالدولة (المزعومة) لسنوات كثيرة بعد قيامها، وكنا نصدق بالفعل أنها مزعومة، بل ولم نكن نسمح لأنفسنا بأن ننطق باسم هذه الدولة، ظانين أن التعود على نطق أو كتابة اسمها قد يعطيها فرصة للبقاء.

كنا نقرأ في تلك الأيام (أي في مطلع الخمسينيات) كتباً ومقالات رائعة للمفكر السوري القومي ساطع الحصري، يؤكد فيها على القومية العربية، وعلى أن أساسها وحدة اللغة، وعلى ضرورة الوحدة.

وأذكر كيف أنه صدر أحد كتبه بقوله إنه عندما سأله سائل عن سبب هزيمة العرب العسكرية على يد الصهيونية، مع أن العرب كانوا يحاربون بستة جيوش ضد جيش واحد، كان رده أن السبب هو هذا بالضبط، أي أن العرب كانوا يحاربون بستة جيوش بدلا من جيش واحد.

قرأنا في هذه الفترة أيضا كتابا رائعا آخر هو (يقظة العرب) لجورج أنطونيوس، عرفنا من هذا الكتاب لأول مرة قصة اتفاقية سايكس بيكو المدهشة التي قسمت المنطقة العربية بمقتضاها إلى دول تخضع لبريطانيا وأخرى تخضع لفرنسا، واعتقدنا أن مهمتنا، نحن الشباب العربي الجديد، هي إنهاء هذا الاستعمار.

كان هذا العصر عصر تجمع بلاد صغيرة في وحدات أكبر، في بلاد العالم الثالث المستقلة حديثا، بل وحتى في أوروبا نفسها، التي كونت في ذلك الوقت السوق الأوروبية المشتركة.

كان هذا عصر القوميات، ومحاولة تحقيق الاستقلال الاقتصادي بسياسات حمائية تستند إلى إثارة الشعور القومي بالإضافة إلى الحجج الاقتصادية. وكان الزعماء السياسيون، في الشرق والغرب، حتى وإن رفعوا شعارات اشتراكية أو رأسمالية، يعتمدون في الحقيقة على إثارة المشاعر القومية.

الذي نجح تماما في زعزعة فكرة القومية العربية، حتى كادت تجتث من جذورها هو ما حدث في منطقتنا وفي العالم ككل خلال الثلاثين عاماً الماضية.

كان هذا هو عصر العولمة في أقوى صورها. الدولة القومية تحل محلها الشركة العملاقة، التي تقفز فوق الحدود بسلعها وأفكارها وطموحاتها، وتسخر من أي مشروع لا يستهدف الربح. قد تجد هذه الشركات من مصلحتها أحيانا توحيد بعض الدول، ولكن الأكثر حدوثاً هو تفتيت الدول، حتى الصغير منها، إلى دول أصغر.

وقد حدث أن هذا التطور كان ملائما جدا لمصلحة دولة صغيرة هي إسرائيل، تعادي بطبعها أي شيء له علاقة بالقومية العربية، فساهمت بدورها في إحداث مزيد من التجزئة والتفريق بين أجزاء الأمة العربية.

تصادف أني كنت أقرأ منذ أيام قليلة من جديد في كتاب أبي أحمد أمين عن سيرته الذاتية (كتاب حياتي)، الذي كان يكتبه في أواخر الأربعينيات، بينما كانت تصلني الأخبار المأساوية عما يجري في حلب، فإذا بي أجد في الكتاب الفقرة الآتية: «وها أنذا في هذه الأيام مرتاع لما أصاب البلاد العربية من أحداث فلسطين، يقلقني جد الصهيونيين وهزل العرب، واجتماع كلمة الأولين وتفرق الآخرين.

ووقوف الأولين على أساليب السياسة الأوروبية والأميركية والروسية، وفهمهم الدقيق للأوضاع، واستغلالهم الفرص السانحة، وجري الآخرين على سياسة الارتجال، وجهلهم بما يجري خلف الستار، وتقصيرهم في جمع كلمتهم وتوحيد خططهم». وها أنذا اكتب الآن بعد أبي بسبعين عاما فلا أكاد أجد غير كلامه لأكرره.

Email