بَيْنَ حُلمٍ وَتَأويل

ت + ت - الحجم الطبيعي

حاول أن تَتَذَكّر تفاصيل حُلُمِك أو كابوسك ليلة أمس فإن استطعت أقول لك من أنت ونعرف معاً ما أنت عليه يوم أمس وقبله، أما الغد فلن يشبه أمسك، فأنت الآدمي المجبول في أحلامك الليلية على الخوف والحزن والقلق والغباء والدهاء والحسد والفقدان والألم والعجز، وفوق كل هذا وذاك أنت المعجون من النسيان والكسل. فهل تستطيع أن تقصص رؤياك كاملةً بحذافيرها؟

أشك في ذلك إذ نحن بني البشر يغلبنا النسيان كل صباح كما يغالبنا الكسل عند كل مساء. نحلُم كل ليلة ولا ندرك أحلامنا إذ تموت في مهدها على وسائدنا كل صباح إلا بعض ما يوحي أو يبوح بعجزنا في الحياة نهار أمس وأول أمس.

نستيقظ صباحاً متكدرين كارهين وبالرغم من ذلك نحاول أن نستدعي أحلامنا فيهزِمُنا النسيان إلا بما بقي من ضبابها وغموضها، فلا وضوحُ مطلق ولا فقدان كامل لذاكرة الليل، ويقف العقل الصباحي يتأرجح بين الذاكرة الهشة والتفاصيل المنقوصة لحلم الليل. فالغرباء والمعارف فيه يتكاثرون ويتماهون ويتغيرون ويفصحون ويضمرون، وحتى يغيرون أقنعتهم وجلودهم ..

والأماكن تتبادل ويختلط علينا الواضح بالغامض؛ وبين مد الغموض وجزر الوضوح في محاولة استدعاء أحلامنا يغيب الواقع وتتحول أحلامنا إلى أضغاث بما نفذ إلى الذاكرة من سوريالية الليل وجنونه وزوابع أفكاره، فتصبح عبئاً علينا بما امتصته ذاكرة صباحاتنا من أفكار جنونية صيغت بعفوية وجرأة وأحيانا غريزية دون خوف أو تردد أو خجل أو عجز.

أما في وقت الظهيرة والوضوح ينسى العقلاء ليلهم وكوابيسه وما قد تخبئه ثانية وسائدهم، وتتعامد الشمس فوق رؤوسنا لتصرخ بنورها الساطع، ليس بالليل وأحلامه وكوابيسه وحدها يرسم الإنسان مستقبله أو يُعلّل آماله ويرقبها في فسحة التفاسير والتآويل، فثمة واقع نهاري واضح تزهر فيه الأرض في ضوئه وظلاله، نختبر فيه طاقاتنا وإخفاقاتنا، قوتنا وعجزنا، حزننا وفرحنا.

فانهض يا صديقي وارمِ من خلفك ليلك الأسود وكابوسك وأحلامك المنقوصة فهي انعكاس لعجزك البارحة، وعانق نهار شمسك في حاضرك، وكن يقظاً كأسد متربصٍ واقبض على أحلام يقظتك، وأمسك بها بكل ما أوتيت من عزيمة، وحاصر بحدقات عينك وقلبك وعقلك لحظة ولادة فراشة من شرنقتها،..

وحلق معها في بساتين الحياة والمعرفة، وفسّر ما أمسكت به ذات ظهيرة من حلم يقظ بروح الطموح والعمل والأمل وفوق كل هذا وذاك العقل. فأجمل الأحلام تلك التي نستدنيها ونحن في كامل وعينا متوثبون في ساحة الصحو والترقب والإلهام، فتُبرِق واضحة أمام أعيننا جليّة في عقولنا ووجداننا، فنكون جزءا منها وتورد الفكرة بها ويأسرنا الحلم فيها.

فما كان لتوماس أديسون أن يستيقظ من نومه ليرى حلم اختراعاته واقعا يتحقق على وسادته لولا أنه عاش بمختبره بكامل يقظته وشغفه ينبش في خبايا حلمه النهاري، ولا الحسن بن الهيثم الذي لولا ذاك الحلم الواقعي العقلاني العلمي المتسائل، حيث قاده لاكتشاف عِلْم الضوء وانكساره والعدسات المكبرة.

وما كان لإسحاق نيوتن أن يدرك أن للجاذبية قانونها لولا تلك التفاحة التي سقطت على رأسه تحت الشجرة وصرخت في وجهه أن يستيقظ من قيلولته، فَبَرَقَ ضوء الظهيرة في عينيه. وأرخميدس الذي طفح حمام السباحة بالماء حينما نزل فيه، فَصَرَخَ "وجدتها.. يوريكا"، وغيرهم.

آن لنا نحن معشر الحالمين الليليين أن نستيقظ من نومنا ونلقي بأحلامنا السباتية الغامضة فضفاضة التأويل والتفاسير من نوافذنا كل صباح، وآن للعقل الحالم أن يُعانق شمس الظهيرة دون وجل أو تردد وبكل واقعية ويقظة، فلا حلم بلا شغف، ولا نهار بلا شمس، ولا علم بلا عقل، ولا أمل بلا عمل، عندئذ نعيش الواقع ونقبل التحدّي ونحلم بتجاوزه بالمعرفة والابتكار والعلم..

ونكون نحن كما يجب أن نكون حالمين دونما خرافة أو خرف أو عتمة، وطامحين ولعين دونما كسل أو تراخٍ. قد يكون البعض قد أصابه القهر ولكن يبقى أمل حلم النهار دون إحباط أو ملل فهو الدافع والحافز لأن نبقى أحياء مُحَمّلين بالأمل.

فالربيع أن نزرع بساتين غدنا دون سياج أو تَخَلّف أو تطرّف أو تأويل أو أضغاث أحلام وبلا كوابيس تكبس على أنفسنا وتقودنا من غياب إلى غياب ومن عجز إلى عجز ومن جهل إلى جهل. فلنحلم كما يحلم باقي البشر ولتتعانق أحلامنا وتتكامل بما ينفع الناس في الأرض وبما يبقينا ويحيينا كما نحب أن نكون، هنالك فقط، سنحوّل أحلامنا إلى واقع نهضوي وتنموي، وستفرض أحلامنا النهارية حقيقتها وأفكارها خارج الصندوق المُعتم، فهي ليست أضغاث الليل تترعرع خارج الواقع على تأويلات ساذجة وساخرة وهذيانات متهافتة ترسخ التخلف وتستدعي شفقة العقلاء والنهاريين الواضحين.

 

Email