زمن الشطَّار

ت + ت - الحجم الطبيعي

لذة الحياة ونعيمها تشبه الدخول في معركة، تحتاج منك التخطيط والتضبيط والتكتيك لكي تربحها، وإن ربحتها تحتاج منك التسلط لكي تحافظ عليها، لذا عليك أن تستعد وتتعلم مهارات القيادة الخاصة بالقرن الـواحد والعشرين، وكيف تكون من أولئك الشطَّار لتتمكن من الإبحار بسفينتك نحو بر الأمان، وإذا ما كنت من أهل المنافسة أرجو منك الانسحاب، فنحن في زمن الشطَّار.

مع أن الجميع يعلم بأن رحلتنا في هذه الحياة مهما كانت طويلة هي أقصر مما نتخيل، وخطوط النهاية من الممكن أن نصلها في أي وقت، مهما كانت سرعتنا وإيقاعنا، رحلتنا أيام وسنون قد أسميناها العمر، وكل ما فيه مسجل ومكتوب وبقسطاس الرحمن موزون، لكن لا أحد يكترث ويفكر بالآخرة، فقد أصبحنا وكأننا نملك "تذكرة دخول" للجنة، والآخرة مضمونة فلا مجال للتفكير والاستعداد من أجلها، بل انصب كل تفكيرنا بكيف نكسب من هذه الدنيا، وكيف لا نفوت لذة إلا ويجب أن نمتلكها أو نستشعرها.

في زمن الشطَّار البعض يلبس قناع الأخيار، فتجد أقدامهم متوجهة إلى المسجد وألسنتهم تعيب أعراض الناس، أيديهم مرفوعة للسماء بالدعاء، وبسجودهم دعوة على أشخاص بعينهم، وتناسوا أن هذا فعل خير من أجل الله سيجازيك أو يحاسبك عليه وهو الغفور الرحيم، وهذا حق عبده لن يسامحك عنه لو بقيت العمر كله تصلي وتصوم من أجله، حتى لو وصلت لمنازل الشهداء، والغريب في هذا الزمان أن الشطَّار يعلمون حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟..)، لكنهم رغم هذا لا يكترثون!!

في زمن الشطَّار قد يشعر الإنسان بالظلم لأن القانون يمكن الاحتيال عليه، ودائما ما نقول إن (القانون لا يحمي المغفلين)، رغم أن القوانين في جميع دول العالم وضعت لمحاكمة مظالم الناس وأساس وجودها إرجاع الحقوق لأصحابها، فمن يُعتدى عليه من قبل شخص آخر، يلجأ للقانون الذي كفل له محاسبة المعتدي، لكن للأسف فبإمكان الشطَّار الالتفاف حول حقوق الغير ليكسبوها أمام المحاكم، فهذه محكمة الدنيا والخطأ والظلم وارد، لكن ما هو الحال في محكمة الآخرة؟!!، أنتم تعلمون الإجابة.

في زمن الشطَّار الحياة تشبه حياة الغابة بلا قواعد، والقوي يأكل الضعيف، وصراعات النفوس لا تخضع لأي مبدأ، ولا عُرف يحكمها، والشطَّار يغفلون العديد من الضوابط الإنسانية والقانونية والدينية التي تحكم طريقة تعامل البشرية، فنجد الكثيرين من الأشخاص يمتلكون براعة في التحايل على حقوق الناس دون إدانتهم، بل اكتسبوا مهارات التجار فأصبحوا يتاجرون بحقوق وأموال وأحاسيس العباد، فتجده يأخذ من مال هذا، ويتأخر بسداد مال هذا، والغريب أنهم يبررون تصرفاتهم بـ"دع الناس هي من تركض وراءك، أمسكهم من اليد التي توجعهم"...

وعقولهم العقيمة تصور لهم أنهم بإمكانهم التحايل على ربهم، فتجدهم حين يسمعون صوت الأذان ينهضون من أماكنهم يتسابقون لينالوا أجر الصلاة في الصفوف الأولى، أي تناقض هذا في نفوسهم، هذه الصلاة أجرها وحسابها أمر عائد إلى الله عز وجل، فمهما تحايلت في الدنيا، في الآخرة على من ستتحايل.

إحدى قواعد زمن الشطَّار أن تسجل ما لك لا ما هو عليك، فمن منا يقيد هذه الحقوق أو يجعلها في كراسة للزمان، ليسجل به أنه جرح مشاعر فلان وتلاعب بأحاسيسه، وأنه تلفظ بكلمات غيبة ونميمة أهانت إنساناً آخر، ومن منا يدرك حق المرأة من رجلها الظالم، وحق الأب من ابنه العاق، وحق الجار من جاره الجائر، وحق رب العمل من الموظف المتهرب، وحق الأوطان من أبنائها الخذلان..

والكثير الكثير من الحقوق التي نتناسى أنها حقوق للآخرين علينا التحلل منها، والعجيب أن في بعض الأحيان حقوق العباد صغيرة ولا تتطلب منا المستحيل لإرجاعها فربما بكلمات بسيطة تعيد الحق لأصحابه، وتتحلل من الجبال التي ستحملها على أكتافك يوم الحساب.

كم هي قصيرة هذه الحياة، بين لحظة وضحاها سيأتي الأجل، ولا مهرب منه أبداً، فإنه حق فلا يُمكنا الرجوع إلى هذه الدنيا والتحلل من الحقوق، "يا الله للحين أنا صغير، العمر طويل، بعدني شباب"، وهل هذه هي الضمانات التي نضعها على العمر؟!،

فنحن دائما نتبع أسلوب التأجيل، وشيطان النفوس يكلمنا بالسوء "باكر أرجع له حقه، عيب عليك تعتذر، مش حلوة بحقك تروح تستسمح منه"، يا لهذه الكلمات كم أهلكت أناساً، وكم شخص جاءه الأجل وفي رقبته حقوق لم يعدها لأصحابها، أم أننا نراهن على تصرفات أولادنا من بعدنا، فهل سيكون في قلوبهم رحمة لمن رباهم؟!، ويعيدون الحقوق لأصحابها، فربما ستشغلهم الحياة والورثة، ويبكون على فراقك ثلاثة أيام، وبعدها سيذهبون إلى المحاكم لتقسيم الكنز الذي تركته، ويتناسون بأن جزءاً منه حق للآخرين.

لنخرج من زمن الشطَّار والتجار ونرجع إلى زمن أولئك الأبرار، ولا تجعلوا من الظلم وجهاً للاختيار، ولا تحولوا بيوتكم لأنبار، بل اجعلوا من أنفسكم خيراً تفيضون به كالأنهار، وإن كنَّا في زمن الازدهار وكل شيء يدار بواسطة الأزرار، علينا أن نعود لزمن التآخي زمن المهاجرين والأنصار، واغسلوا قلوبكم من حب الدنيا كما تُغسل الأرض بالأمطار، وأعيدوا للناس حقوقهم ولا ترتكبوا حماقة الصغار..

ولا تنقلوا على ألسنتكم إلا طيب الأخبار، فبها ترتقوا بحسن أخلاقكم في السماء كما الأحرار، وإن أخطأتم فرحمة الله تتسع بالاستغفار، فلا تؤجلوها وتخدعوا أنفسكم بالأعذار، وقبل أن يحين وقت الاحتضار استعدوا للقاء ربكم بوجوه تفيض منها الأنوار، فوقتها لا مجال لمبادلة الأدوار، وسينزل الله الظالمين عذاباً كالإعصار، وسيعلم الذين ظلموا لمن عقبى الدار.

 

Email