الرؤية المنشودة للإصلاح الاقتصادي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل يحتاج الإصلاح الاقتصادي دائماً إلى خطة؟، من المؤكد أنه يحتاج إلي وجود «رؤية»، خاصة إذا كان المطلوب إيجاد حلول لمشكلات متعددة، اقتصادية واجتماعية، يتفاعل كل منها مع الأخرى، ما يتطلب نظرة شاملة للصورة بكاملها، وإدراك العلاقات المتبادلة بين أجزائها، وترتيباً للأولويات وبرنامجاً للعمل.

وأظن أن هذا هو المقصود بالرؤية المنشودة، وهذه يحتاج تنفيذها إلى خطة، وهذه الخطة تحتاج إلى تدخل من الدولة، بدرجة أو بأخرى.

إن تجارب التنمية في التاريخ، تدل على صحة هذا الاعتقاد. فحتى تجربتا بريطانيا وفرنسا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، اللتان سبقتا كل تجارب التنمية الأخرى في العصر الحديث، اعتمدتا على تدخل سابق وصارم من جانب الدولة، قبل أن يطلق عقال النشاط الخاص والحافز الفردي.

وكذلك كل التجارب التالية، كلما أرادت اللحاق ببريطانيا وفرنسا، اعتمدت على درجة عالية من تدخل الدولة في الاقتصاد، على الأقل، بفرض أسوار عالية للحماية ضد منافسة السلع البريطانية والفرنسية.

فقبل أن يطلق عقل الحافز الفردي، حدث هذا في ألمانيا والولايات المتحدة، واليابان (وقبلها في تجربة محمد علي في مصر)، ثم تكرر في القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي والصين، ثم في كوريا وماليزيا والهند. ولكن، كلما تأخرت الدولة في اللحاق بغيرها (في تحقيق الإصلاح والتقدم الاقتصادي)، كان التخطيط ووضوح الرؤية وتدخل الدولة ألزم وأوجب، إذ تصبح المشاكل أصعب وأكثر تشعباً، فضلاً عن أن الحاجة إلى الخروج من المأزق، تصبح بالضرورة أشد وأكثر إلحاحاً.

كانت الهزيمة العسكرية لمصر في 1967، سبباً كافياً لإنهاء تجربة جمال عبد الناصر في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي (بل ليس من المبالغة القول إن هذه النتيجة كانت أحد الدوافع المهمة للهجوم الإسرائيلي في 1967، مدعوماً من الولايات المتحدة).

كانت هذه الهزيمة العسكرية عاملاً كافياً لشل حركة الاقتصاد المصري لما يقرب من ثماني سنوات، فلماذا لم تسترد مصر حركتها وتتبن رؤية للتقدم الاقتصادي بعد ذلك، خاصة أنها أحرزت انتصاراً عسكرياً مهماً في 1973، كان كفيلاً بشحذ الهمة من جديد، وبدء عهد جديد من التقدم في مختلف المجالات؟.

لدي كلمة واحدة لتفسير هذا الفشل طوال السبعينيات، أي طوال عهد السادات، وهي «التبعية». لقد قرر أنور السادات، لأسباب لا حاجة للخوض فيها، أن يتبني سياسة الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، وعندما قال إن 99 % من أوراق اللعب في يد أميركا، كان يعبر عن مشاعره الحقيقية، وعن الطابع العام لسياسته كلها. واستمر موقفه على هذا النحو حتى مقتله في 1981.

ولكن كيف تستقيم سياسة قائمة على التبعية الكاملة لدولة عظمى، مع تبني رؤية للتقدم والتنمية، تستوحي آمال ومطامح دولة لم تحقق ثورتها الصناعية بعد؟، نعم، لقد شهدت سنوات السادات فترة من ارتفاع معدل نمو الناتج القومي، حدث نتيجة لظروف خارجية بحتة (الهجرة، إعادة فتح قناة السويس، تدفق المعونات وبعض الانتعاش في السياحة)، ولكن هذا ليس هو المقصود بالنهضة الاقتصادية أو الإصلاح الاقتصادي، فهذه النهضة وهذا الإصلاح، لا يتحققان إلا بتنمية الصناعة والزراعة، كما أن هذا الذي حدث، لم يكن ينطوي بالطبع على أي رؤية، لما يحتاجه التقدم الشامل للأمة.

لقد قال حسني مبارك مرة، في إجابة عن سؤال يتعلق بالفارق بين سياسته وسياسة السادات، أنه، أي مبارك «لا يؤمن بسياسة الصدامات الكهربائية».

وقد كان بذلك يعبر بدوره عن الحقيقة (لأسباب لا حاجة أيضاً للخوض فيها)، وكان معنى هذا القول في الواقع، أن ما أدخله السادات على مصر من سياسة التبعية (عن طريق الصدمة الكهربائية)، ظلت مصر تعاني منه لسنوات طويلة بعد ذلك. شعارات المرحلة الحالية، الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. شعارات تصلح بالطبع كأهداف نهائية لرؤية شاملة للتنمية والتقدم والنهضة، ولكن هذه الرؤية الشاملة لم تتبلور حتى الآن، رغم مرور أكثر من خمس سنوات على رفع هذه الشعارات.

مرة أخرى نقول، إن الرؤية المنشودة لم تتحقق بمحاولة التنبؤ بما سيكون عليه معدل نمو الناتج القومي في سنة 2030، أو أي سنة أخرى، 7 % سنوياً أو أي معدل آخر.

فكما سبق أن ذكرت، يمكن أن يتحقق هذا المعدل المرتفع، دون أن ينطوي على تقدم اقتصادي أو نهضة، ومن الممكن أن يتحقق تقدم اقتصادي وتبدأ النهضة، في ظل معدلات لنمو الناتج أقل من 7 %.

إن سيارة فقدت قوة الدفع الذاتي، وارتبطت بسيارة أخرى هي التي تحدد المسار وسرعة السير فيه، قد تسير بسرعة هائلة، تنتهي بها إلى هاوية. إنما الرؤية المطلوبة، هي بمثابة استعادة السيارة لقوتها الذاتية، مع القدرة على اختيار الطريق الذي تسير فيه، والسرعة الملائمة بمطلق الحرية.

Email