لماذا نتذكرهم عندما يرحلون؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أعرف إن كانت هذه الظاهرة مصرية خالصة، أم أنها موجودة في كل مكان من الدنيا.اقصد ظاهرة الانتظار حتى يموت الإنسان ثم تبدأ الكتابة والكلام الكثير عن مزاياه.

كلما عبرت هذه الظاهرة عن نفسها، أفكر في التوقف أمامها، والكتابة عنها، ولكن في كل مرة، أوقف نفسي عن الكتابة، وأقول إن النفس ربما كانت أمارة بالسوء، أتساءل: هل استكثر على راحل أن نكرمه بما يليق؟!.

وأنظر لنية الكتابة عمن ماتوا على أنها تنوب عنا بالقيام بكل المطلوب تجاههم، وكانوا يقولون في قريتنا إن الغربال الجديد له شدَّة، ونحن نتعامل مع الموت هكذا،

ويبدأ الاهتمام به كبيراً كأنه يصل الأرض بالسماء، ثم يتراجع الاهتمام إلى أن يأتي النسيان أخيراً.

نجيب محفوظ هو من صك التعبير الذي أصبح قاعدة في التعامل مع كل ما يمر بنا في الحياة من بشر أو أحداث أو وقائع، كتبه في مفتتح روايته: أولاد حارتنا. عندما قال: ولكن آفة حارتنا النسيان.

عندما ذهبت للعزاء فى يونان لبيب رزق (27/‏‏10/‏‏1933 – 14/‏‏1/‏‏2008). تساءلت زوجته السيدة: أديل. لماذا كل هذه الكتابة عنه بعد رحيله؟

بسبب ظروف العزاء لم أقل لها إن أهم ما تركته الحضارة المصرية القديمة. قبور. بما في ذلك الأهرامات. ربما كان الجانب الإيجابي – الوحيد – في هذه الظاهرة.

الرغبة المصرية القديمة في مقاومة النسيان. والبحث عن حلم الخلود المستحيل.

عدت أفكر في القضية القديمة، هل نحتفي بمن مات لإحساسنا أن الموت خطفه، مع أننا مازلنا نعيش ونحيا، وضع في حفرة صغيرة وأغلقت عليه، في حين أننا نأكل ونشرب ونسمع ونرى ونتعامل مع كل مسرات الحياة، كل حسب إمكانياته، والمتاح له؟!.

أم أن النفس البشرية تشعر أن من مات أخلى لنا مكانه، قدم لنا أعز ما لديه، وهو حياته، ترك لنا مساحة من الفراغ يمكن أن نتوهم الحركة فيها، ربما المسألة أكثر من محيرة؟!.

تكرر نفس الأمر مع الروائي خيري عبد الجواد، الذى توفي يوم الثلاثاء 24 يناير 2008 عن سبعة وأربعين عاماً، حيث ولد فى 24/‏‏7/‏‏1960 فكم عانى في حياته من الإهمال، ولم يحظ ما كتبه بأقل قدر من الاهتمام، مع أنه أصدر عشرة من الأعمال القصصية والروائية.

من هذه الاعمال: حكايات الديب رماح 1987. حرب أيطاليا. العاشق والمعشوق. كتاب التوهمات 1992. يومية هروب. إضافة لتحقيقه لسيرة الظاهر بيبرس. وتوصله لسيرة شعبية نادرة للفيلسوف ابن سيناء.

شاركنا جميعاً في هذه الظاهرة بامتياز.

ولا أستثنى نفسي من المشاركة في جريمة الصمت والتجاهل تجاه الكاتب في حياته، أعترف أنه عندما أعطاني منذ عامين، روايته الجديدة: كيد النساء، وكان سعيداً بنشرها بدار الآداب في بيروت. وقال لي بخجل: رأيك يهمني. ولكنه مضى من عالمنا دون أن يسمع رأيي. قلت لنفسي للزمن بقية، أو مصيري أقرأ الرواية وأكتب عنها أو أكلمه بشأنها، ولكن الموت سبق القراءة وسبق الرأي وسبق ما كان يهتم أن يسمعه.

قال لي المرحوم خيري أنه عرف طريقة عندما قرأ رواية جمال الغيطاني: الزيني بركات، ثم أسعده زمانه بالعمل معه في سلسلة تراثية بالثقافة الجماهيرية، وسلسلة عن أدب الحرب في هيئة الكتاب، اهتمامه بالتراث تعدى استلهامه في الكتابة، أصبح مرجعاً لنا جميعاً، عند البحث عن نص تراثي قادم، أو مفقود.

نتصل به. نطلبه منه. يوافيك به قبل الموعد الذي حدده بأيام، ويحمل صورة جميلة، استنسخها من النص الذى تبحث عنه، وقام بهذا الدور عربياً بقدر إمكاناته التي أتيحت له في حياته القصيرة.

كان ينطبق عليه التعبير الشعبي: ابن موت. ولأنه كان بدون عمل، حاول تأسيس دار للنشر، بدعم ومساندة من القاص المصري الذي يعيش فى أسوان يوسف فاخوري، ونشرت هذه الدار بعض الكتب القليلة، ثم توقف المشروع لضيق ذات اليد، لم يبق منها سوى مكتب في شارع جوهر بالدقي، ورجاني أكثر من مرة أن أزوره فيه، ولم تسمح لي ظروف الحياة ومشاغلها بتلبية الدعوة.

ثم داهمته مجموعة من الأمراض. آخر مرة رأيته. لم يبق واضحاً في وجهه سوى عينيه. تومضان بقوة. دخل أحد مستشفيات القاهرة بالدقي. ولإيماني بأن الموت لا يحتاج لسبب. يكفي أنه الموت، لم أسأل عن ظروف الوفاة.

لكنهم قالوا لي أنه تناول جرعة دواء خطأ أدخلته في غيبوبة. ثم مات. قال لي يومها بعض الأدباء الأشقاء العرب الذين كانوا في مصر أنهم عرفوا بخبر موته من المغرب. من مختبر السرديات. وضع له على النت نعياً كتبه الناقد والباحث المعروف. شعيب حليفي.

 

Email