بقالات على الطلب!

ت + ت - الحجم الطبيعي

هاتفني ونبرة الفرح طاغية على صوته: «بارك لي خلّصت الماجستير»، سألته: «ماجستير في ماذا؟» ولعلمي بقدرات الأخ الضئيلة ولا مبالاته المعروفة، فقد توقعته أن يقول ماجستير في أكل الفلافل أو التسكّع في المولات، لكنه فاجأني بقوله «MBA» قالها بتردد، وكأنه غير متأكد من صحة نُطقِها.

تذكرت أنه لا يعرف من الإنجليزية شيئاً وقبل أن ألقي بشكوكي عليه صدمني من جديد: «والمعدّل 3.98 بعد» طبعاً هذا معدّل لا يستطيع حتى مايكل بورتر أن يحلم به لا أن يُحقّقه، قلت: «معقول!»، صمت قليلاً قبل أن يوجه لي لكمة ثالثة: «دِق مخباك وراح يضبّطونك»! من حق الإنسان أن يختار مساراته في الحياة ما دامت لا تخرج عن نطاقه «الشخصي».

لكن يتوقف ذلك الحق و«يُمسَك من أذنه» كلما امتد أثره ليصل للنطاق العام والمحيط به، فصالح المجتمع مُقدم على صالح الفرد دونما نقاش، فأن يختار المرء ما يأكل وما يلبس وما يسكن فيه فذلك من حرياته التي لا يحق معارضته فيها مادام يتحرك في نطاقه الخاص.

لكن لا بد من مناقشة حق مكان تعلمه مثلاً لأن الـمُخْرَج النهائي كونه شخصاً «خريجاً» سيشكل جُزْءاً من قوة العمل المتاحة، فإن كانت الجامعة ذات وزن نوعي جيد فسيكون النتاج جيداً في الأغلب.

 أما إن كانت الجامعة لا تحمل من الوزن والقيمة الأكاديمية سوى الاسم فقط فإن النتاج سيكون سيئاً للغاية وقد يتحول إلى صُداع مزمن للبلد إن كَثُرَ المنتسبون لتلك الجامعات الهزيلة! إن بلادنا، بفضل الله تعالى، وحكمة قيادتها تقفز قفزات هائلة في سُلّم المدنية ولن أكشف سِراً إن قلت إنها قد جاوزت محيطها الإقليمي منذ زمن.

ورفعت سقف طموحاتها لتنافس دول النخبة العالمية، فمن مدينة مصدر وأبحاث الطاقة النظيفة والطاقة المتجددة والمفاعل النووي وشركة ستراتا لتصنيع أجزاء هياكل الطائرات، مروراً بوكالة الفضاء وتصنيع مسبار الأمل لرحلة المريخ بأيد إماراتية تُثبت الإمارات دونما ضجيج أنها الرقم الأصعب في الشرق الأوسط.

هذه الطفرة المدروسة دعت الحكومة لإجراء تغييرات كبيرة في هيكلية مؤسساتها وأدواتها التنظيمية لمواكبة تحديات المرحلة المقبلة، فعالم جديد يتطلب فكراً مختلفاً وتعاملاً مختلفاً، لكن تدور كل الأمور على محورٍ واحد: الإنسان! هذا الإنسان لا بد أن يكون عالي التأهيل «الحقيقي» جداً حتى يفي بمتطلبات قادم الأيام شديدة التنافسية.

وذلك ما يفسر الإنفاق الحكومي السخي على تطوير التعليم وخلق ثورة في منهجياته وأدواته، والتأكيد على ضرورة دخول جامعات الدولة الكبرى لتصنيفات الجامعات العالمية الأرفع أداء حتى يكون النتاج متفقاً مع رؤية الدولة وخطط التنمية من ناحية التأهيل الأكاديمي الرفيع، وهو أمر لا يكدره سوى هذا التزايد المزعج للمنتسبين للجامعات الضعيفة مما لن تقدم مستقبلاً سوى أشباح غير قادرة على رفد مؤسسات الدولة بما تحتاج إليه حقاً لمواكبة الطموح.

إن العلم ليس تجارة ومستقبل الوطن ليس «بزنس»، ومن أركان حب الوطن والولاء له أن لا نقدم مصالح «الجيوب» على مستقبله وصالحه، وكم هو محزن أن نرى اهتمام القيادة الرشيدة منقطع النظير بالتعليم.

ثم نجد في المقابل بعض رجال الأعمال لا ينظرون لذلك المرتكز الحيوي إلا من باب النظرة الضيقة، التي لا ترى سوى الدراهم بعد أن وجدوا في ضعفاء التأهيل من الطلاب فرصة سوقية Market Niche ليفتحوا «بقالات» بمسمى كليات وجامعات لا ترد أحداً «تبارك الله»، ويخرج منها الطالب بشهادة ماجستير في إدارة الأعمال، وهو لا يعرف من الانجليزية سوى «جود مورننغ وهاو آر يو!».

إن الموضوع ليس سهلاً على الإطلاق، فنحن نحتاج إلى أضعاف ما لدى دول النخبة من المخرج التعليمي النوعي حتى نقلص الفجوة قدر الإمكان، وحتى نعرف أزمة ذلك المخرج النوعي أو ما يعرف بالمواهب.

فمن المهم أن نلقي نظرة على مسح أجرته مؤسسة Manpower Group عام 2015 عن أن ازدياد تناقص المواهب عالمياً في سوق العمل وصل إلى 38% بمعنى أن هذه هي نسبة الوظائف التي تجد المؤسسات صعوبة كبيرة في إيجاد شاغل كفء لها، والمفاجأة أن اليابان تعاني من ذلك بما نسبته 83% من وظائفها.

والأسوأ من ذلك أن مسحاً أجرته PWC عام 2014 لقيادات المؤسسات الأميركية الكبرى أظهر أن 93% منهم يؤمن بضرورة تغيير استراتيجيات إدارة المواهب لكن 61% لم يبدأ الخطوة الأولى أصلاً، كما أكد 66% منهم عدم كفاءة إدارات الموارد البشرية لمواجهة هذه المشكلة الكبرى! يا سادة نحن نتكلم عن مؤسسات العالم الأول فما بالكم بمؤسسات الدول النامية!

نحن بحاجة لغربلة الجامعات ووضع تصنيف صارم لها حتى لا نجد سوق العمل مغرقاً بأشباه المؤهلين ممن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفي بمتطلبات المرحلة المقبلة وظيفياً، نحتاج لمصارحة مع الذات .

كما فعلت الهافينغنون بوست قبل فترة بنشرها تقريراً صادماً عن الجامعات الأميركية ضعيفة الأداء وفق مقاييسها الصارمة لنجد من بينها جامعات أريزونا ستيت ودنفر وإلينيوي وكانساس وكولورادو وميتشيغان وانديانا بلومينغتون ويوتاه وميريلاند، حتى تتضح الصورة أكثر فإن أريزونا ستيت ترتيبها 169 عالمياً!

إن التنافسية المقبلة ستعتمد على عدد أقل من البشر في المؤسسات وهو ما يُحتِّم أن يكون أولئك النخبة هم أفضل الأفضل وليس أفضل الموجود، والواقع يقول إن شركة هيونداي الكورية الجنوبية التي تأسست في الستينيات تنتج مركبات أكثر بالنسبة لعدد موظفيها مقارنة بتويوتا اليابانية، وفولكس فاجن الألمانية، فالقادم يتطلب ليس نوعية أداء أفضل فقط.

بل أن يكون هو ذاته الأكثر من ناحية الكم أيضاً، نحتاج لنقلة في أداء جامعاتنا الكبيرة ولوضع جامعات البزنس وبقالات رجال الأعمال في خانتها، التي تستحق، فإمارات المستقبل تحتاج لمخرجات تعليمية من فئة رفيعة للغاية، تلك الفئة التي لن تكون بالتأكيد من جماعة «دق مخباك وبيضبّطون أمورك»!

Email