الإمارات تستعيد البضاعة الغائبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في خبر أرسله لي الصـــــديق العـــزيز الأستـــاذ طارق الحميد ونشرته مجلة سبكتيتر البريطانية أن حجم أوقاف جامعة هارفارد الأميركية العــريقة بلغ في عام 2015 نحو 37.6 مليار دولار. وهـــو رقم يعـــكس اهتــمام الجامعة بتنمية أصولها ومواردها المالية وتنـــويعها، ثم إنفاقها على التطوير وتحسين الجودة، والاهتمام بالبحث العلمي والابتكار، مما جعل هذه الجامعة الشهـــيرة في مقدمة الجامعات العالمية.

عندما قرأت الخبر، استحضرت أن الوقف في الأساس صناعة عربية إسلامية خالصة؛ من مبادئ الشريعة انطلق مفهومه، وتعددت مجالاته، وترسخت ثقافته. وتكفي الإشارة إلى أن الأوقاف في العصور الزاهية شملت فئات كثيرة، وبلغت حداً حضارياً غير مسبوق. حيث نشأت أول جامعة في العالم وهي جامعة القرويين في فاس بالمغرب منذ أكثر من 12 قرناً على الوقف.

وكانت هناك أوقاف خاصة لكل مجالات النفع العام في المجتمع، ومنها، «وقف بيت الغضابة» وهو وقف لإيواء النساء الغاضبات من أزواجهن وليس لهن أهل في المدينة، كذلك الأوقاف الصحية كالمستشفيات، والأوقاف على الفقراء، والمساكين والأيتام.

الوقـــــف الذي تأسس فــــي بيئة عربية إسلامية خالصة انتقل إلى بريــــطانيا في عام 1264م في عهد الملك هنري الثالث على يد والتر دي ميرتون الذي كان يعمل مستشاراً للملك؛ ويلاحظ أن دي ميرتون قد سار على الصيغ الإسلامية ذاتها للوقف مع تغــــيير بعض العبارات واستبدل بها نصوصاً مسيحية أو عبارات ومــــفاهيم تــــتسق مع الثــقافة البريطانية آنذاك، ثم استخدم دي ميرتون الصيغة الإسلامية نفسها في التعبير عن نية الواقف ورغبته في «التبرع والتنازل والتخلي عن إقـــــطاعية مالدون وفازلية»،.

 كذلك سار الأمر في الوثيقة سواء في تـــحديد المستفيد من الوقفية، وهم طلاب العلم من أقاربه الدارسين في كلية دي ميرتون التي أصبحت بعد ذلك جامــــعة أكســـفورد، وبذلك كانت وقفية دي ميرتون هي بداية تأسيس جامعة أكسفورد.

تم التوسع في هذا المفهوم للوقف وتطويره بحيث أصبح ثقافة عامة في المجتمعات الغربية. ولم تعد الحكومات في تلك الدول هي التي تمارس الوقف وتطبقه، بل أصبح مسؤولية مجتمعية يسهم فيها رجال الأعمال والأثرياء، وتعددت مظاهر الوقف فشملت بناء المدارس، والجامعات والكليات، ومراكز البحوث العلمية، وكذلك المستشفيات والمكتبات والحدائق العامة.

من المؤسف أن مفهوم الوقف في عالمنا العربي لم يتطور بما يحقق مقاصده وأهدافه النبيلة، وارتبط في أذهان الناس بالمؤسسة الدينية ومشروعات بناء المساجد وأماكن العبادة. فالوقف لم يكن نشاطاً دينياً على مر التاريخ الإسلامي، بل كان نشاطاً حضارياً عاماً يحقق أفضل مفاهيم التنمية المستدامة، لأنه كان ادخار المجتمع في وقت الرخاء ثروة ضخمة ينفق منها في أوقات الشدائد والأزمات.

في سبيل إعادة الوقف إلى النحو الذي كان عليه، بدأت بعض المبادرات لإعادة تلك الثقافة الغائبة. وقامت السعودية بإنشاء مراكز بحثية متخصصة في شؤون الوقف.

في السياق ذاته، تبذل دولة الإمارات جهوداً حثيثة لاستعادة هذه المؤسسة الحضارية، والبضاعة العربية الإسلامية، وبدأت بصورة جادة بإنشاء الأوقاف في مختلف المجالات، وذلك من خلال مبادراتها الخيرية والإنسانية العديدة وتقدم صوراً رائعة تجسد المبادئ التي أرساها المؤسس الشيخ زايد، طيب الله ثراه.

ولعل إحدى أكبر هذه المؤسسات الوقفية، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية الإنسانية عام 1992 وبلغ الوقف الخاص بها مليار دولار، ينفق عائدها في جميع أنحاء العالم في بناء المدارس والمستشفيات والجامعات، ومعها مؤسسة الشيخ خليفة للأعمال الإنسانية التي تمول بناء الكثير من المشاريع ذات الصِّلة بحاجات الإنسان الأساسية.

وعلى الصعيد المجتمعي نذكر مبادرة رجل الأعمال عبدالله الغرير بوقف ثلث ثروته دعماً للتعليم والمنح الدراسية للمتفوقين من مختلف الدول العربية.

ومن هنا نستطيع القول إن الإمارات التي قدمت للإنسانية مبادرات رائعة مثل مـــــؤسسة محمد بن راشد وهيئة آل مكتوم الخيرية مؤهلة أن تـــقوم بدور ريادي في إعادة «مأسسة» الوقف.

هذه الجهود مباركة ومشكورة، وينبغي البناء عليها وتطويرها بشكل يواكب مسيرة التنمية في مختلف المجالات التي تشهدها الدولة، مثل استخدام التكنولوجيا والبحث والتشريعات الخاصة بالوقف، والشراكات بين القطاعين الحكومي والخــــاص بالإضافة إلى الجمعيات الخيرية.

ثقتنا كبيرة في عودة مؤسسة الوقف الحضارية إلى ديارها، لتعيد الإمارات مراحل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في سياق معاصر متسامح متفاعل مع العالم، ينشر قيم المحبة والسلام والرفاهية والسعادة للبشرية كلها.

Email