فليستدام الوعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحوم فوق رؤوسنا ولا نراه إلا قاسياً باختطافه أحدهم فجأة أو عنوة من بيننا، نعرفه، ونتذكر أنه يحيا بيننا على حساب موت أحدنا، قد أكون أنا أو أنت أو هو أو هي، فثمة ضحية قادمة ستأتي. يأتينا خلسة صامتاً ويرتع في أجسادنا إذ ننساه أو ننكره خشية أن نكتشفه، وندس رؤوسنا في الرمال كالنعام كي لا نراه حقيقة أو حتى سراباً..

فالمهم أن لا نراه أو نواجهه. فيؤثر الكثير منا الجهل خوفاً على الوعي به والمعرفة، لأن في الوعي به يعني مواجهة مع الغول الذي لا يرحم، الغول الذي يقوم على مبدأ خلود الخلية وتكاثرها دون توقف، فيتمدد لينهشنا ويعيش على هلاكنا. فهو الوحش الذي يقود إلى ضحاياه من المرضى بصمت وهدوء إلى حافة الموت، إلا من استدركه بالوقاية والوعي قبل أن يستفحل وينتشر.

إن أصعب ما يمكن أن يستدام في عقولنا هو الوعي والتراكم المؤثر ليشكل سلوكنا ومواقفنا تجاه الخطر المحدق، فلا ننكره أو نهمله ولا نبالغ فيه أو نعظمه.

وإن كان لا بد من ذكاء في ترسيم الوعي فعلينا أن نكون علميين أولاً وعمليين ثانياً. وهذا ما لمسته من حملة التوعية بمرض السرطان التي نفذتها الجامعة الأميركية في الإمارات بالتعاون مع جمعية أصدقاء مرضى السرطان، ودعماً للأسبوع الخليجي للتوعية بهذا المرض الفتاك.

ويأتي مقدار التوعية بهذا المرض بحجم أهمية مقاومته والوقاية منه ودرء الخطر غير الانتقائي والعبثي والمبهم أحياناً كثيرة، ويأتي أيضاً بمقدار أهمية تقديم الدعم النفسي والطبي لأولئك الذين أصيبوا به.

ويعتبر هذا الحدث العلمي والاجتماعي بفعالياته الاستثنائية وأولها القفز بالمظلات، والكرنفال الداعم من الأصحاء والمصابين على حد سواء منصة مهمة وصرخة مؤثرة للتوعية ليس فقط للحماية منه والوقاية منه بالسلوك الغذائي والفحوص الوقائية الدورية، مثل الثدي، وعنق الرحم، والقولون، وغيرها.

وإنما من حيث تعميق النظرة المجتمعية والمؤسساتية في التعامل مع هذا المرض، وتقييم مخاطره ودرئها بالعمل والتوعية ودرجات الاهتمام باعتباره مرضاً يجب التعامل معه بذكاء اجتماعي كما هو علمي. فالتوعية بهذا المرض تعني مكافحة التدخين، تناول الأغذية الصحية، محاربة التلوث البيئي، ممارسة الرياضة، وغيرها من أساسيات الحياة وحماية الخلايا.

ولعل اختيار هذا الحدث من قبل مؤسسة أكاديمية رائدة لتكون منظماً رئيسياً لهذه الحملة، لتؤكد البعد العلمي الجاد على أهمية التثقيف والتوعية المؤثرة بين جميع فئات المجتمع..

وأرى في هذه الحملة واحدة من أعلى قمم المسؤولية الاجتماعية التي تقدمها الجامعة الأميركية في الإمارات، لأنها تتغلغل بذكاء في تعميق الوعي الجمعي تجاه هذا المرض الشرس بخلاياه السرطانية النائمة، وهو في النهاية حماية للمرضى ووقاية للأصحاء.

ليس أكثر تأثيراً من إعلان موقف الدعم والقبول أو الرفض أو حتى الاستنكار من أن يتجمع الناس ليعلنوا رسالتهم على الملأ، وإن هذا الحدث بكرنفاله الكبير من جميع أعضاء الهيئة التدريسية، والطلاب والطالبات، والعاملين، ومعارفهم وأقاربهم والمرضى أنفسهم، وعدد كبير من ممثلي المؤسسات الطبية والعلمية، والإعلاميين، وغيرهم من فئات المجتمع..

وبرعاية اعتبارية كريمة من سمو الشيخ منصور بن محمد بن راشد آل مكتوم، ليؤكد أهمية جهود التوعية المستدامة للوقاية والتعامل مع مرض السرطان بأنواعه، ليس فقط بالمناسبات والأيام المخصصة لذلك عالمياً،..

وإنما بمنهجية تطال المؤسسات والمناهج التعليمية، وجميع نقاط التفاعل الاجتماعي وملتقياتها، لأن التوعية المستدامة تعني ألا ننكر الخطر ولو للحظة ونستعد له وأن نتعامل معه بحجمه دون مبالغة أو إسفاف أو إنقاص أو تغييب أو حتى إهمال.

إن المسؤولية الاجتماعية ليست حكراً على الجامعات وإن كانت نبراساً للآخرين، وهي بعلومها وببحوثها وبعقولها أول من يقرع الجرس ويلفت الانتباه للقضايا المجتمعية والآفات المحدقة، وليست هي مسؤولية المؤسسات الحكومية، أو الخيرية والأهلية، وإنما أيضاً مسؤولية القطاع الخاص مؤسسات وأفراداً، لأن في ذلك تكتمل التوعية ويشعر الفرد..

كما هي المؤسسة بأنهما جزءان فاعلان في وقاية وحماية ودعم المجتمع، فهي علاقة منفعية متبادلة بين المجتمع ومكوناته. شكراً للجامعة الأميركية في الإمارات على مبادرتها، وفوق كل هذا شكراً لجميع الذين حضروا ليعلنوا على الملأ أن العلم والمعرفة هو أساس الوعي وليست الخزعبلات والشعوذات.

 

Email