كيف نبني وجهات نظرنا.. أكاديمي عربي نموذجاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

أسأل من جديد: كيف نبني وجهات نظرنا؟ سؤال تداعى إلى ذهني من جديد عندما استلم هاتفي النقال رسالة عبر تطبيق «واتس آب» فيلماً قصيراً عن محاضرة لأكاديمي كويتي معروف ويحظى باحترام لدى قطاعات واسعة من المثقفين الخليجيين يتحدث فيها عن كتاب «جواسيس جدعون» ومؤلفه جوردن توماس.

ينسب الأكاديمي للمؤلف الذي وصفه بأنه «صهيوني أميركي» قوله في كتابه «أنا نفسي لا أعرف كيف انتصرنا على العرب».

يضيف الأكاديمي نقلاً عن توماس حسبما يقول: «انتصرنا على العرب ليس بقوتنا بل بالثغرات الموجودة في الصف العربي» ويزيد بالقول إن توماس يقول «ليس هناك خط فاصل بين الموساد الإسرائيلي وبين المخابرات العربية. وأن المخابرات العربية ترسل أعضاءً منها للتدريب لدى الموساد».

ويخلص إلى القول (على لسان توماس) إن «هناك نظاماً أمنياً واحداً بين هذه الأنظمة العربية والكيان الصهيوني» وأنه «إذا أراد رئيس عربي أن يزور عاصمة عربية أخرى تعطى إفادة للموساد حتى يقترح (أي الموساد) أعضاء الوفد المرافق للرئيس وماذا يطرح في المحادثات وماذا لا يطرح». ويستنتج أن ما أسماه «التخادم بين النظام الرسمي العربي والصهاينة قديم».

استوقفتني فيما ذهب إليه الأكاديمي نقاط عدة أولها أن جوردن توماس «بريطاني» وليس أميركياً مثلما أشار له هذا الأكاديمي. أما ما استوقفني أكثر هو أنني قرأت هذا الكتاب (جواسيس جدعون) في نسختيه الأولى الصادرة عام 2001 والنسخة المحدثة الصادرة عام 2007.

وبالتدقيق في هذا المقطع من المحاضرة، وجدت أن ما قاله الأكاديمي لم يرد في الكتاب على لسان المؤلف. ولتحري الدقة، قمت بمراجعة الكتاب من جديد في طبعتيه الأولى والثانية فلم أجد أياً من العبارات مما نقله الأكاديمي الكويتي على لسان توماس.

ولمزيد من الدقة أعرض هنا تسلسل أجزاء الكتاب كما في الطبعة العربية: (مقدمة الناشر، شكر، توطئة ثم 17 فصلاً تتحدث عن عمليات الموساد أصبحت 18 فصلاً في النسخة المحدثة بعد إضافة الفصل الخاص باغتيال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات). إضافة إلى مقدمة الناشر التي يقدم فيها لمحة عن المؤلف والكتاب، لم يرد إطلاقا في أي جزء من الكتاب العبارات التي نسبها الأكاديمي لتوماس.

أما الفصول فهي شرح لبعض عمليات الموساد. وفي الطبعة المحدثة عام 2007 أضاف المؤلف فيها فصلاً جديدا عن اغتيال عرفات مسموماً في عملية دبرها الموساد. ولمزيد من الدقة، عدت إلى الطبعة الانجليزية للكتاب في محاولة لاكتشاف ما إذا كانت هناك أجزاء لم تظهر في الترجمة العربية، فوجدت أن النسختين الأصل والمترجمة متطابقتان.

السؤال: لماذا يلجأ أكاديمي معروف إلى إيراد اسم مؤلف أجنبي واسم كتابه وينسب كلاماً على لسان هذا المؤلف لم يرد في الكتاب المشار إليه؟

تعليقي الوحيد على ما نسبه هذا الأكاديمي إلى المؤلف هو أنها أقواله هو وليست أقوال المؤلف، وأيا كانت وجهة النظر والدوافع التي تقف وراء هذا «التقويل»، فهي تمثل تطبيقاً حرفيا لنظرية بول جوزيف غوبلز في الدعاية: نصف حقيقة تبنى عليها أكاذيب.

قد تكون للأكاديمي العربي مواقف من النظم العربية، ولغالب هذه النظم مساوئ شتى معروفة ومتداولة، لكن هل يتعين الحديث عن هذه المساوئ بشكل عقلاني أم بالمبالغات المهينة للعقل؟ أقاويل على هذا النحو من المبالغة إلى درجة استئذان الموساد في أي زيارة لرئيس عربي وقيام الموساد باقتراح أسماء أعضاء الوفد الرسمي والموضوعات التي يتعين بحثها في الزيارة.

والسؤال الطبيعي هنا: كيف يرى هذا الأكاديمي الجمهور الذي يخاطبه؟ وهل يحترم هذا الأكاديمي جمهوره؟

يلفت نظري هنا أن الأكاديمي لم يلتفت إلى المغزى الأهم لقراءة كتاب مثل هذا يشرح أسلوب عمل الموساد الإسرائيلي. فالمؤلف يكرس فصلاً كاملاً للحديث عن اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهيد ناجي العلي ويشرح بشهادات ضباط من الموساد نفسه كيف أن الموساد قام بالاغتيال وقام بتأليف قصة محبوكة حول تورط الراحل ياسر عرفات في الاغتيال نشرها عملاؤه في صحف بريطانية.

القصة التي تلقفتها بعض الصحف العربية بل وصحافيون فلسطينيون أيضا وبعض المثقفين وراحوا يرددونها دون أي تدقيق أو تمحيص.

تبدو هذه مفارقة تكشف خللاً جسيماً عندما يشيح أكاديمي ومثقف عربي ـ يتحدث متوشحاً بالكوفية الفلسطينية ـ بوجهه عن معلومات حول أسلوب عمل الموساد تكشف حقائق لينصرف إلى ترديد مبالغات دعاية سياسية (من بقية احترام لتاريخ الرجل لم أصفها بالأكاذيب) مهينة للعقل.

سواء تعلق الأمر بنقد الأنظمة العربية أو مقاومة إسرائيل، هل يمكن أن يتم ذلك بالأكاذيب والمبالغات أم بالتشخيص العلمي والموضوعي الدقيق؟ ليست حالة هذا الأكاديمي استثناء من جدل عام ونمط شائع لمثقفين وصحافيين هم من صناع الرأي العام. وعلينا أن نتصور نوع الخطاب الذي ينشره هذا النوع من التعامل مع الحقائق ونوع الوعي الذي ينشرونه.

 وفي مثالنا هذا، فإن المعلومات عن أسلوب عمل الموساد لا يتم توظيفها من اجل معرفة حقيقية بالعدو بل لبناء دعاية سياسية تساير أجواء استياء عام من غالب الأنظمة العربية بطريقة لن تزيد مهما طرب الجمهور لهذه المبالغات، عن جلد الذات بشكل مدمر.

Email