غَابَتْ الشّمْس

ت + ت - الحجم الطبيعي

كعادته استيقظ قبل الفجر تعباً مُنَبّهاً بهمومه، والتزاماته التي تتكالب عليه بها، فالحياة نهش في الروح والعقل والجسد، يتفحص نفسه ويعد أصابعه، ليعرف أنه ما زال في وعيه..

وأنه على قيد الحياة، وأنها أعراض الهموم الكبيرة التي تكبله وتحاصره، وحيداً في مكانه الضيق يصارع القلق والأرق، محاولاً أن يعيد ترتيب أولويات روحه وجسده وعقله، يحاول أن ينسى أو يتناسى، لعله ينام ليريح جسده قليلاً، فلم يبق سوى سويعات على بدء العمل، لكن العقل يأبى أن يستريح، فيتقلب الجسد يمناه ويسراه، ويبقى بين الصحو والنوم، لا هي الحياة ولا هو الموت، مساحة أقسى من الاثنتين معاً.

هكذا تخيلت أحد أصدقائي يقضي ليله في انتظار الشمس، ويذهب بها إلى عمله، وينسى نفسه حتى يلتبس عليه الزمن، فينسى يوم مولده، وحدها عائلته تتذكره ومحبوه الكثر، يأتي مثقلاً بعتمة الليل إلى عمله، ويجلس على كرسيه للحظة، ثم يقف للحظة أخرى أمام النافذة المطلّة على البحر..

ويتأمل بصمته المطبق وبعينيه الباحثتين عن خلاص، ما في هذا الأفق الفسيح، ينتقل إلى النافذة الأخرى المطلة على ذات البحر، علّه يجد ملاذاً جديداً. ثم يعود باتجاه مكتبه، بمشيته المتوثبة، وبقرع خطاه، يجلس ثم يقف ثانية، ثم يجلس، ويتأمل شاشة الكمبيوتر، ويذهب ثانية إلى نافذة أبعد. وحيداً، متوثباً، أراه كل صباح.

تحدثنا في الأدب، والموسيقى، والفلسفة، والشرق والغرب، والشعر، والمرأة، والأبناء، والنهضة، وأنماط الحياة، والإنسان، والعمل، والابتكار، كنا ماهرين في إيجاد المفارقات حتى في ذواتنا، فنسخر من أنفسنا معاً، ونضحك معاً عليها. كان ناقداً أدبياً ماهراً وعميقاً لبعض مقالاتي، نصحني مراراً وتكراراً بممارسة الرياضة..

وقال لي، مع الرياضة تناول ما لذ وطاب من الحياة، مستشهداً بنفسه وقوة بدنه وعافيته، وقال: خُلِقنا لنمشي لا لنجلس. لم يشتك يوماً من همّه الغامض، ولم أسأله، لكني أشرت عليه بضرورة مراجعة الطبيب الذي يمكن أن يغيّر له حياته، وتخفيف ألمه وقلقه، كما فعلت يوماً أنا، أنصت لي بتفهم، وكأنه على عتبة حل ما لهمومه وقهرٍ لقلقه، وأن شمساً حقيقية ستشرق حتماً..

ولكنه استدرك وقال لي: الهم أكبر من طبيب وحبة دواء، أو حتى شمس ساطعة تشرق غداً، حيث لا ظلال أحتمي فيها من حرقتها في ظهيرتها، وأدار ظهره وعاد إلى نافذة البحر، وأخفى دمعته.

على الرغم من همّه الصامت الخفي الذي استشرفْتُ ملامحه، أو استنتجتها، عبر ملاحظاتي اليومية المتراكمة، لم يتأخر عن القيام بواجبه الاجتماعي، بمشاركة الآخرين أفراحهم وأعياد ميلادهم وأتراحهم، حاضراً بقوة معهم بابتسامته، لم يؤذِ أو يغتب أو يحقد أو يحسد، كان صوفيّاً في علاقته مع كل ما حوله، لكن الصوفية لا تنفع مع أعباء الحياة الحديثة والهموم التي تقصم الظهر..

ويزيد الهم هماً، هذا الزيف في قنوات التواصل الاجتماعي الذي دائماً كان يسخر منه بكلمات تضرب على العصب، وتشعرنا أن الآخرين ماهرين في ممارسة الحياة، فتزيد لدينا الهم هماً، والكآبة كآبة، وتشعرنا بالعجز عن الحياة، وكان يقول دائماً، الزيف والشيزوفرانيا مليئة هناك وازدهرت.

وفجأة، دون سابق إنذار، استراح صديقي وانزاح همّه إلى الأبد، واستبدل غرفته التي لطالما حملق في تفاصيل سقفها قبل أن ينهض بحسب ما زل لسانه، وباح لي حول طقوس ما قبل القدوم إلى العمل، وأخبرني غير مرة، أن الوظيفة خلف شاشة الكمبيوتر في مكان واحد، هو أسوأ ما اخترعه الإنسان. حينها، أدركت أنه طائر بلا أجنحة، أو بمعنى أدق، بأجنحة متكسرة.

بعد حواري الفلسفي العميق معه حول الحياة والعمل، قررت بنصيحته أن آخذ إجازة من عملي، وأحلق بعيداً، وكان قراراً سريعاً، لا سيّما أنني كنت في وعكة صحية، فقد نصحني بعدم تأخير العملية الجراحية، تتبعها فترة نقاهة بلا عمل، ولا هموم، وهو المثقل بالهموم الخبيئة غير المعلنة.

وبينما أستمتع بما أوصاني به صديقي الحزين كاظم الغيظ، وأنا في غمرة الاسترخاء والراحة وصفاء الذهن والقلب والعقل، رنّ هاتفي ليخبرني زميلنا الآخر، أن الشمس ما عادت تشرق في مكتبنا، فقد غابت إلى الأبد. توفي زميلنا شمس الدين، بسبب التهاب في الجسم، نتيجة انتشار سريع لجرثومة أصابت دمه، توفي بعد مقاومة شرسة، تشبث طوالها بالحياة.

غاب شمس، فغابت عنا الشمس، فمن وحدته وصمته إلى مثواه الأخير في غرفته الصغيرة الضيقة، وبعتمتها بلا شروق أو غروب أو مواعيد عمل أو هموم تتراكم، أعلن شمس الدين راحته الأبدية على الجميع، وفي حضرته. في جنازته ومراسم دفنه. أيقنت من أنفاس المشيعين المتقطعة..

والأيادي التي بللتها دموع أقاربه وأصحابه، أنه بفقداننا له، افتقدنا جزءاً عميقاً في دواخلنا، وأنه كان عظيماً بصمته، وقد أهداني نافذة جديدة لتقييم الحياة والموت معاً، لقد أشرق علينا بشمسه الهادئة الودودة في حياته، ولكنها خذلته، فلم تشرق عليه بما فيها الكفاية، لقد غاب شمس، غاب أبو شريف.

 

Email