تفكيك الأكذوبة الفارسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

التاريخ لا يكذب لكنّ البشر من يُغيرون ملامحه، والوقائع لا تتغير ولكن الأعلى صوتاً والأسبق فعلاً هو من يجعل الوقائع تظهر بشكلٍ مغاير لما كانت عليه فعلاً، والمؤلم ليس تغيير التاريخ ولكن أن نتقبّل ذلك التاريخ المزوّر دون أن نعيد غربلته لبيان ما لحق به من تحريف من أجل تلميع مَن كان على الهامش أو غَمْط حق من أضاء للبشرية مشاعل من نور!

تئن كتب التاريخ الإنساني بمديحٍ لا ينقطع عمّا يُسمّى «الحضارة الفارسية» ويتم التغني بها وبمنتجها الحضاري وإبداعها المعماري وبثرائها المعرفي، بينما يتم تصوير العرب وكأنهم قبائل بدويةٍ تجوب الصحاري الشاسعة بحثاً عن قريةٍ تنهبها أو عدو تشاكسه، وأُغفِلَتْ عمداً حقائق باهرة عن العرب، فغُيّبَتْ أصول الحضارات تارة وتم تزوير الأمور ليبدو المتأثر أسبَقَ من المؤثر تحسباً أن يأتي يوم فتنكشف فيه الحقائق المطوية!

إنّ أعظم حضارةٍ عرفتها البشرية بشهادة القرآن الكريم هي «إرَم ذات العماد» وهي حضارة عربيةٌ خالصة وكذلك حضارة سبأ وحمير ومدائن صالح، ولكن ما يحاول مُزوّرو التاريخ طمس معالمه لتلميع فارس هو أصول حضارات بلاد الرافدين العظيمة، وكم كانت مضحكة محاولات بعثات التنقيب الأوروبية وهي تحاول قلب التاريخ لتبدو حضارات العراق لاحقة ومتشبّهة بما يقال عنه زوراً «حضارة فارس» نكاية بأصول تلك الحضارات!

لئن كانت سومر أقدم حضارة في بلاد الرافدين أتت من شعوبٍ غير محددة الموطن على وجه التأكيد فإنّ جواهر تاج حضارات العالم القديم وهي الآكادية والبابلية والأشورية جميعها حضارات عربية أسسها وبرع فيها العرب القدماء عندما كان العالم يرزح في مجاهل الهمجية، وهي حقيقة مؤلمة تؤلم بعض دول الجوار وتُنغِّص على كثير من كارهي العرب معيشتهم ولا أدل على ذلك من فرقة التنقيب الألمانية بقيادة روبرت يوهان كولدوي والتي سرقت كنوز بابل ومنها بوابة عشتار وخرجت بتقرير يقول بأن عمارة بابل وفنونها مقتبسة من حضارة «برسيبوليس» الفارسية، نعم يا سادة، البابليون العرب اقتبسوا حضارتهم وعمارتهم من حضارة أتت «بعدهم» بأكثر من ألفي سنة!!

لقد روّج الغربيون وطبّل لهم حلفاؤهم بالسر أكذوبة أنّ «الساميين مستهلكو حضارة وأنّ الآريين منتجون لهما» والآريون هم الفرس والساميون نحن تحديداً كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بسنن الترمذي: «سام أبو العرب»، وتُفنِّد هذه الأكذوبة الأدلة الحسية والحقائق التاريخية ولكنها لم تجد من يناضل عنها كعادتنا في البرود وترك المسرح ليلعب عليه كل كذّابٍ وأفّاق حتى يصبح بعدها من الصعوبة بمكان أن يعود الحق لأهله، فعندما تتأهب الحقيقة للتحرك تكون الكذبة قد طافت بنصف الكرة الأرضية كما يقول مارك توين!

يقول الكونت «دي جوبينو»: «إنّ الإيرانيين لم يبتكروا شيئاً جديداً في الفنون، فسواء كان في عصر الأخمينيين أم الفرثيين أم الساسانيين أم بعد ظهور الإسلام لم يكن للفرس طراز أو فن خاص بهم بل اقتبسوا من غيرهم»، ورغم أن أول حضارة هناك وهي عيلام التي سبقت دخول الآريين «الفرس» بآلاف السنين كانت حضارة دموية ابتُلي بها العراق المتحضّر كالعادة إلا أنها أيضاً كانت متأثرة ومقتبسة فقط لحضارات العرب بالرافدين.

ل إنّ أقدم هرم مقدس لديهم بمدينة شوش خلال حُكم الملك أونتاش أتى بعد ألفي سنة من أول هرم مماثل تماماً في مدينة أور العراقية العظيمة، وعمد «قورش» ملك الاخمينيين على جلب المهندسين والفنانين البابليين والآشوريين لمدينته بيريسبوليس «تخت جمشيد حالياً» وحتى الثور المجنّح الذي يُفاخر به الفرس لم يكن سوى تقليد تام لثور نينوى العراقي وعيد النوروز لم يكن سوى تقليد لعيد الربيع لدى السومريين، وكم كان مضحكاً أن «مسلّة الملك حمورابي» العربي البابلي والتي نقش عليها قوانينه كأقدم نظام قضائي متقدّم في تاريخ البشرية لم توجد في بابل ولكن وجدت مسروقةً ومخبأة في مدينة شوش الفارسية!

لم يكن الفرس أهل حضارة، بل كانوا أهل حرب، ولم يكونوا ناشري علمٍ وثقافة وفنون كعرب بابل وآشور وآكاد لكن كانوا ناشري خراب ودمار، ويكفي أن نعرف أنّ الفارسية لا تملك لغةً مكتوبة في بيانٍ جليٍ للفقر الثقافي لديهم مما اضطر «قورش» لاعتماد الآرامية العربية كلغة رسمية للبلاد.

وبقي هذا التأثر بالحضارة العربية على مدار الزمن ويكفي أن الباحث الإيراني يوسف عزيزي يؤكد أن 60% من مفردات الفارسية هي عربية، بل يؤكد مؤرخون إيرانيون أن بعض قصائد شاعرهم الكبير «سعدي» هي انتحال وترجمة حرفية لقصائد أبي الطيب المتنبي.

هذا الشعاع الحضاري العربي لم يُقابَل إلا بضده، فمنذ أنّ حَلَّ«الآريون» الهضبة الإيرانية لم تتوقف حملاتهم التخريبية لمدن العراق، وفي ذاك يقول الدكتور نجيب ميخائيل: «لقد دك الفرس أركان الحضارات في الشرق، فزّعزعوا من أسَّس الحياة الثقافية في البلاد التي حكموها، وقطعوا خيوط الحضارات الأصلية ومزقوها شر ممزّق وقضوا على التطوّر الفني في كل مكان»!

إنّ مأساة التاريخ ليست في مُزوّريه فقط بل في الساكتين على تزويره، وإن من الضرورة بمكان أن تنشأ مراكز بحثية متخصصة لتميط ركام الأكاذيب والتحريف الذي تعرّض له تاريخنا، وإنّ من المحزن أن ننتظر أن يتبرّع مستشرق برد بعض الاعتبار للحضارات العربية بينما نحن لا نُحرِّك ساكناً، فحرب العصر الحديث لها شقٌ ثقافي مهم.

وعندما يُصوَّر مُخرِّب الماضي بأنّه حامل مشعل الحضارة يكون من الطبيعي أن يتم تصوير العرب «بُناة أعظم حضارات البشرية» كقبائل همجية لا تعرف سوى مشاغبة من حولها والاقتتال من أجل ناقة، وكم هو مخجل أن تئن كتب العرب أنفسهم بمثل هذه «الانتقائيات» المسيئة لهم لتكريس النظرة الدونية لتاريخهم القديم والذي سرقه وتبنّاه هَمَجُ الماضي السحيق!

Email