حين انتزعنا استقلالنا وثرواتنا المنهوبة!

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أيام، تحل ذكرى يوم من أعظم أيام العرب في العصر الحديث. إنه يوم الذكرى التاسعة والخمسين على انتصارنا في حرب السويس، وخروج آخر جندي من جنود العدوان الذي استهدف مصر، وأراد استرجاع قناة السويس التي كان جمال عبد الناصر قد أعلن قرار تأميمها قبل شهور.

اندحر العدوان الذي شاركت فيه فرنسا وبريطانيا مع إسرائيل، وانكسرت الجيوش والأساطيل أمام مقاومة مدينة صغيرة هي «بورسعيد» على مدخل قناة السويس.

كانوا يخططون لاجتياح مدن القناة (بورسعيد والإسماعيلية والسويس) خلال يومين أو ثلاثة، فإذا ببورسعيد المحاصرة من كل الجوانب تصمد لأكثر من أسبوع لمدافع الأساطيل القادمة من البحر، وقنابل الطائرات التي لم تكن تنقطع عن سماء المدينة، سقط الألوف من الشهداء.

لكن المدينة صمدت واستمرت في المقاومة حتى بعد دخول القوات الفرنسية والبريطانية، حتى انتصرت إرادة الحرية، وفرضت شعوب العالم على الغزاة أن يرحلوا، ليخرج آخر جندي من جنود العدوان الآثم في 23 ديسمبر 1956.

أعود للذكرى اليوم وسط أحداث جسام تمر بها الأمة العربية، ليس فقط لأن أجيالا جديدة لم تعايش هذه الأيام، ولا لأننا أمام يوم مجيد من أيام العرب، ولكن لأننا في العالم العربي كله نحتاج لأن نتوقف أمام هذه الأيام لنعرف أننا قادرون على الانتصار، وأننا لسنا ـ كما يريد الأعضاء أن يرسخوا في أذهاننا ـ أمة كتبت عليها الهزيمة.

ولأننا اليوم أقوى مائة مرة مما كنا عليه في عام 1956، وعلينا أن نتصرف بوعي كامل بأننا قادرون على أن نكتب مصيرنا بيدنا وليس بأيدي المتآمرين على أوطاننا، أو الطامعين في ثرواتنا، أو الحالمين بمد نفوذهم في أراضينا.

لم يكن جمال عبدالناصر مغامراً حين أقدم على استعادة قناة السويس لمصر بعد أن كانت تمثل دولة داخل الدولة، ولا تكتفي بنهب مصر والاعتداء على سيادتها، بل كانت تمثل الجناح الآخر للاحتلال البريطاني، وتشاركه التآمر على مستقبل مصر.

ولاحظ هنا -عزيزي القارئ - أن الاثنين «الاحتلال وشركة قناة السويس الأجنبية» شاركا في دعم وتمويل جماعة الإخوان المسلمين عند نشأتها في مدينة الإسماعيلية، التي كانت في ذلك الوقت عام 1926 مركزا لقاعدة الاحتلال العسكري ومقراً لإدارة الشركة!!.

لم يكن عبد الناصر مغامراً، بل كان مستشرفاً لعصر جديد تسقط فيه الإمبراطوريات القديمة وينتهي الاحتلال، وتعود للشعوب المقهورة حريتها المسلوبة وثرواتها المنهوبة. وكان يؤمن بأن عالماً عربياً جديداً لا بد أن يولد في ظل الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية بعد أن تتحرر أراضيه وتتحرر معها الإرادة العربية من كل القيود التي كبلتها لقرون وفرضت عليها التخلف والجمود.

كانت مصر وحدها في مقاومة العدوان، فقد كان المغرب العربي تحت الاحتلال الفرنسي، والدولة التي نالت استقلالها مازالت تخضع لنفوذ المستعمرين ولأعباء ما ورثته من تخلف، لكن الشعوب العربية كلها كانت قد نهضت من سباتها، وكانت قد أصبحت أقوى من استعمار شاخ، أو حكام تربوا في ظل هذا الاحتلال، كما كانت شعوب العالم الثالث كله ترنو إلى مصر، وتدرك أن انتصارها سوف يفتح أمام كل هذه الشعوب طريق الحرية والاستقلال، وهذا ما حدث بالفعل.

مع انتصار مصر في حرب 1956 كان عبدالناصر يقف واثقاً ليقول إن على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل، وقد كانت فرنسا أسرع بالرحيل من المغرب العربي بينما أصدرت بريطانيا قرارها بالرحيل من شرق السويس «كما قالت» وهي تقصد تصفية وجودها الاستعماري من دول الخليج العربي وهي العملية التي بدأت في الستينيات واستمرت حتى بداية السبعينيات.

كانت التجربة أمام عبد الناصر وكان يدرك أن تأميم القناة أخطر. وأن المقاومة ستكون أكثر شراسة، ولكنه اتخذ القرار، وخاضت مصر الحرب، وقدمت التضحيات وانتصرت على العدوان، ولم تستعد القناة فقط، بل فتحت الطريق لاستعادة الشعوب لكل ثرواتها المنهوبة.

ومن هنا كانت بداية مرحلة استعادة البترول العربي، ولتبدأ مرحلة من النهوض العربي بعد أن سقط الاستعمار وعادت الثروات المنهوبة لأهلها.أي حدث يمكن الاحتفاء به ـ بعد كل ذلك ـ أكثر من الاحتفال بانتصار السويس خاصة في ظل الظروف التي تمر بها أمتنا العربية؟!.

إن الاحتفال بهذه الذكرى العزيزة الآن ليس احتفالا بالماضي فقط، ولكنه تأكيد على أننا لم نبدد هذه التضحيات التي قدمناها، بل بنينا عليها وكان البناء أكبر مما يتحمله أعداؤنا، ولهذا يشنون حروبهم الجديدة علينا اليوم.

لكننا استوعبنا الدرس، وأصبح لدينا من مصادر القوة ما يجعلنا أقدر على ضرب كل محاولات إخضاع العالم العربي أو جعله ميداناً لتصفية الصراعات الإقليمية والدولية، أو منطقة نفوذ يتصارع عليها الآخرون، أو يحاولون إدخالها في جحيم الصراعات المذهبية والطائفية والحروب الأهلية.

اليوم تبني مصر مشروعها الكبير لتحويل منطقة قناة السويس إلى نقطة انطلاق صناعية عالمية، وأعتقد أن الإمارات ستكون الشريك الأكبر، وفي الوقت نفسه تقف مصر ومعها دول الخليج العربي والسعودية كحائط صد أساسي ضد إرهاب يرتدي زوراً ثياب الإسلام وضد محاولات تقسيم الوطن العربي من جديد وفق إرادة القوى الدولية والإقليمية وضد مصالح العرب.

ويقف تحالف مصر مع دول الخليج العربي كصخرة تقاوم محاولات زرع الفتن المذهبية أو جر المنطقة إلى حروب الطوائف، وكقاطرة تقود أي جهد للحفاظ على عروبة المنطقة ضد إرهاب يتستر بالدين، وضد مؤامرات تتشارك فيها قوى دولية وإقليمية لاستنزاف قوى العرب وفرض الإرادة الخارجية عليهم.

درس 56 ينبغي أن يكون حاضراً. من تآمروا علينا سيظلون ماضين في طريق التآمر، مع اختلاف الأسماء وتنوع الرايات، ما يجمعهم جميعاً هو العداء للعروبة، وما يجمعنا هو الولاء لعروبتنا، هذا هو أساس المعركة والباقي تفاصيل تستخدم فيها كل الأسلحة العسكرية والاقتصادية والدينية.

درس 56 يقول إننا نستطيع الانتصار. وستون عاماً بعده تقول: إن أعداءنا لم يتوقفوا عن التآمر.. ولن يتوقفوا حتى نوقفهم!

Email