أخيراً بدأت مواجهة ترامب

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما كتبت فى منتصف يوليو الماضى فى هذه الصفحة لأقول إننى كلما استمعت لدونالد ترامب تقفز لذهني مباشرة حلقات بغيضة من التاريخ الأميركي، وشرحت وجهة نظري بالمقال، كنت أعرف أن الكثيرين فى عالمنا العربي يختلفون معي ولا يجدون فى ترشح الرجل مشكلة تذكر. ولم لا؟

فدونالد ترامب رجل أعمال ناجح يمول حملته الانتخابية بنفسه ويقول عنه الإعلام الأميركي إنه يحظى بشعبية لأنه يأتي «من خارج الوسط السياسي»، ولأنه «صريح» للغاية يقول ما لا يقوى آخرون على نطقه.

لكن حالة ترامب تعتبر حالة نموذجية تشرح بوضوح لماذا يصعب متابعة الانتخابات الأمريكية من خلال ما يقوله الإعلام الأميركي عنها. فالإعلام الأميركي ليس طرفاً محايداً وإنما أحد أطراف اللعبة السياسية. فما يركز عليه يصبح هو «الحدث» فى الانتخابات الأميركية وما يتجاهله يسقط من المتابعة.

والإعلام الأميركي يحدد من الذى فى الصدارة من المرشحين ومن يستحق المتابعة. وبالتالي فإن الأفضل فى متابعة ما يجري هو اللجوء لما يقوله المرشحون أنفسهم فضلا عن سجلهم السياسي. فأنت إذا تابعت دونالد ترامب من خلال تلك العدسة تكتشف أن الرجل، على عكس ما يقول الإعلام الأمريكي، لم يكن أبدا بعيدا عن الوسط السياسي.

فهو قام عبر السنوات بتمويل عشرات المرشحين للمناصب السياسية المختلفة من جمهوريين وديمقراطيين بالمناسبة. وكان أهم نجوم الحملة المتعصبة التي زعمت أن أوباما لا يحق له تولي الرئاسة لأنه ولد فى كينيا لا فى أمريكا. وعندما اضطر أوباما لنشر شهادة ميلاده التي تثبت أنه ولد فى الولايات المتحدة ظل ترامب طرفاً بالحملة التي لا تزال تزعم أن أوباما مسلم واشتراكي وشيوعي فى الوقت ذاته!

والحقيقة أن ادعاء الإعلام الأميركي الزائف بأن ترامب يحظى بالشعبية لأنه «من خارج الحلبة السياسية» يغطي على حقيقة بائسة وهي أن التعصب الأعمى لم يعد مكانه على هامش الساحة السياسية وإنما صار له وجوده المعتبر داخل الحزب الجمهورى.

صحيح أن الجمهور الذي يؤيد ترامب يظل محدودا بالمقارنة بالأميركيين عموماً إلا أن ذلك الجمهور يمثل قطاعاً لا يستهان به داخل الحزب الجمهوري نفسه، خصوصا إذا ما أضفت إليه الجمهور الذي يؤيد المرشح الجمهوري بن كارسن الذي لا يقل تعصباً وجهلاً عن ترامب.

لكن ترامب يمثل حالة فريدة لأنه استعدى قطاعات واسعة، ولكنه لا يزال يتصدر الساحة السياسية بفضل الإعلام الأميركي الذى لا يكف عن إفساح مساحة للرجل فى تغطيته التي صارت لشهور طويلة تتصدر الصحف ونشرات الأخبار رغم سيل القبح الذي ينطق به.

فالرجل لم يترك جماعة، باستثناء البيض المتعصبين، إلا وأوسعها إهانات. فهو استعدى قطاعات واسعة من النساء بمن فى ذلك النساء المحافظات حين سخر بألفاظ خارجة من نجمة قناة فوكس نيوز اليمينية، ميجين كيلي.

واستعدى المحاربين القدماء، وهم من أهم ناخبي الحزب الجمهوري، حين رفض اعتبار السناتور جون ماكين، «بطلا عسكريا» ساخراً منه لأنه تعرض للأسر فى الحرب.

واستعدى الأميركيين من أصل لاتيني عندما وجه إهانات مباشرة للمهاجرين من المكسيك معتبرا إياهم يأتون بالمخدرات والجريمة ثم عمم الأمر على كل أبناء أميركا اللاتينية، وبالمرة الشرق الأوسط، ثم لم يتورع عن أن يطرد واحداً من أشهر الصحفيين ذوي الأصول اللاتينية من مؤتمر صحفي كان يعقده.

وهو لا يكف عن استخدام مفردات عنصرية في الإشارة للسود كان آخرها مزاعم بأن الأغلبية الساحقة من البيض يقتلون على يد السود، وهو ما تكذبه كل الإحصاءات الرسمية الأميركية.

والمسلمون والعرب بالطبع على قائمة ترامب فى تعصبه. فهو من أهم من روجوا لأسطورة أن أوباما مسلم باعتبار الإسلام اتهاماً. لكنه مؤخرا دعا لإنشاء قاعدة بيانات للمسلمين وحدهم فى أميركا بل وإصدار بطاقات لهم تحمل ديانتهم على غرار ما كان يحدث لليهود فى ألمانيا النازية.

ثم زعم أيضا أنه بعد أحداث سبتمبر 2001 شاهد بنفسه «الآلاف والآلاف من العرب» يحتفلون فى نيوجرسي. وهو ما كذبته كل المصادر الرسمية. والرجل الذي لا يتوقف عن النطق عجباً سخر مؤخراً من أصحاب الإعاقة الجسدية حين راح يقلد صحفياً للنيويورك تايمز بسخرية فى أحد لقاءاته العامة.

ومع كل ذلك السيل، لم يبدأ إعلام الوسط السياسي في مواجهة ترامب إلا الأسبوع الماضي فقط. فأخيرا، نشرت النيويورك تايمز افتتاحية تحدثت فيها عن «أكاذيب» الرجل وقارنتها بمفردات أزمنة غابرة في التاريخ الأميركي قالها جوزيف ماكارثى أو جورج والاس. ثم حين سخر الرجل من صحفي النيويورك تايمز المعاق، عادت الصحيفة لمواجهته مرة ثانية.

لكن ترامب ليس هو القضية في رأيي، إذ الأهم منه هو ذلك القطاع الذي يؤيده ويؤيد بن كارسن. فهذا القطاع صار له وجود قوي داخل واحد من الحزبين الكبيرين، بما يعنيه ذلك من تأثير على السياسة الداخلية والخارجية الأميركية على السواء.

Email