الجماعات الثأرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عرّفت العرب الثأر بأنه انتقام يقوم على دم بدم، وقد عرفت جميع الشعوب تقريباً ظاهرة الثأر، وقام الثأر بوظيفة اجتماعية، رغم سلبيته، ألا وهي الحد من ظاهرة القتل وسيلةً لفض النزاعات، ومع قيام الدولة الحديثة، عموماً، ووجود قانون للقصاص، تراجعت ظاهرة الثأر، دون أن يعني زوالها بالمرة، وخاصة في قرانا العربية.

وبالرغم من خطورة ظاهرة الثأر والثأر المضاد كحالة مجتمعية تقليدية لكنها تظل ظاهرة ضيقة لا تهدد العلاقات المعشرية بين الناس، ولا تهدد التعايش المجتمعي.

لكن الخطورة كل الخطورة تكمن في الثأر السياسي. والثأر السياسي هو الانتقام من الخصم السياسي قتلاً وسجناً وتعذيباً واغتيالاً. وهذا ما قد يولد جراحات طويلة الأمد لا يعرف نهايتها أحد من الناس، وبخاصة إذا كان الثأر جماعياً، جماعة ضد جماعة.

يجب أن أشير، أولاً، إلى أنه لا يجوز لأي دولة أن تكون ثأرية بأي حال من الأحوال، بل إن الدولة الثأرية ليست دولة أصلاً إلا بالصورة، أما في الحقيقة فإنها سلطة جماعة ثأرية ليس إلا. الدولة في ماهيتها تمثل الجميع على اختلافهم وتحمي حق الجميع، وتحافظ على السلم الأهلي والتعايش المجتمعي.

ما هي الجماعة الثأرية؟ الجماعة الثأرية مجموعة من الأفراد تقوم بينهم عصبية أيديولوجية ينفون كل ما عداهم، إما ثأراً من ماضٍ بعيد أو قريب، أو محاولة منهم لفرض نمط من الحياة غير قابل للحياة وغير متوافق مع روح الواقع وحاجات الناس، ويتوسلون العنف أداة لذلك، دون حسبان أية نتائج خطيرة من جراء ذلك.

لكن الخطورة، كل الخطورة، تكمن في تمكن جماعة ثأرية من السيطرة على سلطة الدولة وتمارس الثأر من خصومها، فتفسد المجتمع وتحوله إلى جحيم، وبخاصة إذا انتصرت هذه العصبية الثأرية في دفع جموع رعاعية خلفها. هذه الجماعة الثأرية بما تملك من عنف قد تقود المجتمع إلى حرب أهلية، لاسيما إذا كانت عصبيتها الثأرية ذَات طابع طائفي أو ديني - سياسي، ومؤسسة على خطاب ماضوي أكل الدهر عليه وشرب.

والمتتبع لسلوك الجماعات الثأرية وللسُلط الثأري سيجد أنها لا تستطيع العيش إلا في شروط انهيار عالم القيم الحامي للحياة، والاتكاء على قيم محاربة الحياة، فالقوة التدميرية للتنظيمات الثأرية، أو للجماعات الثأرية قائمة على نفي شرعية وجود الآخر، ونفي حقه، بدءًا من حقه في الحياة وانتهاءً بحقه في الاختلاف، مروراً بنفي حقه في التعبير عن وجوده أصلاً.

والمتأمل في سلوك: أحزاب الله في العراق ولبنان، وأنصار الله، وداعش وكتائب أهل الحق... وما شابه ذلك يدرك ما ذهبنا إليه من وصف، بل والمتأمل بسياسة إيران لا يخرج عن تصور الدولة الثأرية.

ولما كانت المجتمعات لا تقوم إلا في شروط حضور الاعتراف المتبادل وقيام دولة حماية الحق فإن وجود الجماعات الثأرية السياسية مظهر صارخ من مظاهر العداء للمجتمع وللدولة معاً، صورة من صور النكوص التاريخي والعودة بالسلوك إلى الحالة الهمجية. ويجب أن نضيف إلى ذلك خطر قيام الدولة الأيديولوجية التي لا تتوانى عن الثأر من خصومها بوصفهم أعداء للوطن من وجهة نظرها.

والعالم الراهن أقام القطيعة أصلاً مع الدولة الأيديولوجية لصالح دولة المواطنة والحق التي تقف على مسافة من جميع أفراد المجتمع. ولما كانت خطورة الجماعات الثأرية على هذا النحو فيجب تمكين المجتمع من المناعة الأخلاقية والروحية والاجتماعية والمعيشية التي تحول دون أن تجد هذه الجماعة مكاناً لها في المجتمعات، وخلق كل أشكال الوقاية منها، لا سيما أن هذا النمط من الظواهر قد ينتقل عن طريق العدوى حتى لو كانت المجتمعات سليمة ومستقرة. وأمر كهذا يحتاج فعلاً استراتيجياً خلّاقاً، وبخاصة في هذه المرحلة من التاريخ.

 

Email