خواء القيادة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين افترض الجميع أن فيينا 1 كانت بخصوص سوريا، كانت في حقيقة الأمر محاولةً أخرى بائسة للدبلوماسية الأميركية في احتواء روسيا.

لدرجة أن أغلب مراكز الأبحاث الأميركية المختصة بالعلاقات الأميركية الروسية، باتت تصف مواقف إدارة الرئيس أوباما «بالبهلوانية الإرضائية» في كم تقبلها للاستفزازات الروسية أو الصينية في مناطق نفوذها التقليدية. فيوم انعقاد مؤتمر فيينا مثلًا، أقدمت قاذفات روسية على الاقتراب بمسافة ميل بحري واحد من حاملة الطائرات الأميركية رونالد ريغان خارج مياه كوريا الجنوبية، ما اقتضى إطلاق طائرات لاعتراض القاذفتين كرد خجول إذا ما قورن بحجم ما مثله ذلك التهديد.

فتلك القاذفات تملك قدرة إطلاق صواريخ قادرة على التحليق (تحت خط الأفق Sea Skimming) من مسافات تتجاوز الثلاثمائة ميل بحري، ما يعد استفزازاً غير مقبول أو مفهوم من قبل قيادة القطاع الجنوبي الروسي.

النهج «الاسترضائي Appeasement» لإدارة الرئيس أوباما من كل الملفات لم يعد مقبولاً حتى من وزارات أو قيادات بعض تلك الوزارات، حيث تعد هذه الإدارة الأعلى من حيث عدد الاستقالات أو طلب الإغفاء من الخدمة، وتحديداً في وزارتي الدفاع والخارجية.

ولكي ندرك حجم الاستثمار في الجهد الدبلوماسي الأميركي، فإن وزير خارجيتها كيري قطع ما تجاوز 920 ألف ميل من الترحال جواً، وزار 74 عاصمة ومدينة خلال 408 أيام منذ تولية تلك الحقيبة، ولم ينجز خلالها غير الاتفاق النووي الإيراني «الخديج»، وها هي إيران التي تهدد بالنكوص. في حين لم تحظ ملفات أخرى وذات تأثير أكبر في الاستقرار الدولي مثل الوضع الإنساني والسياسي في سوريا، أو الاستمرار في تجاهل خطورة تفاقم الوضع السياسي في ليبيا، والذي بات مصدر تهديد مباشر لكل الجوار الليبي بالأهمية. ناهيك عن الموقف الأميركي الاسترضائي لروسيا وإيران من قرار مجلس الأمن رقم 2216 بخصوص اليمن، وإيثارها المناورة شبه العبثية في إنفاذ الإرادة الدولية.

حالات التوتر الجيوسياسي عالمياً تتصاعد في ظل غياب قوة قادرة على ضبط إيقاع الانفلاتات تحت مسمى التزاحم على المصالح، والولايات المتحدة خلال الخمسة عشر عاماً الماضية أفقدت مجلس الأمن البقية الباقية من مصداقيته بمغامراتها العبثية، من حربها على الإرهاب إلى غزو العراق، بالإضافة لاستفزازاتها غير المسؤولة في التمدد في شرق أوروبا حتى قاد لأزمة بحجم ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. كل ذلك التوتر القائم اليوم، هو في جزئه الأكبر يمثل إفرازاً طبيعياً لتخبط الولايات المتحدة أثناء فترة قطبيتها الواحدة. فحتى أوروبا التي تبنت استراتيجية تقليص حجم قواها العسكرية، قد تراجعت الآن عن ذلك وأطلقت برامج دفاعية جديدة تحسباً من تراجع أكبر لدور الولايات المتحدة في المحيط الأطلسي، مقارنة بالنمو الصيني والروسي.

عالمنا اليوم على شفير هاوية سياسية حقيقية لا حرب كونية كما يقرأ البعض ذلك، لكنه في واقع الأمر درس قاس جداً في امتحان النوايا والإرادة الدولية.

ويمثل إخراج الشرق الأوسط من دوامة عدم الاستقرار أولوية قصوى ستسهم في التأثير في معالجة توترات أخرى دون الحاجة للجوء لأدوات غير دبلوماسية، بشرط ألا تكون على حساب استقرار المنطقة مستقبلاً أو مهدداً لأمن دوله، كما هو الحال القائم الآن من حرب عبثية تحت مسمى «محاربة الإرهاب». فالإرهاب آفة لا تنمو إلا في فضاءات الفراغ السياسي، والإرهاب في محصلته النهائية ليس أكثر من «أداة» قابلة للتوظيف في تثبيت حالة الفراغ السياسي لخدمة أهداف من يُوظفها.

أما في ما يخص الاستقرار مفهوماً، فيجب أن يكون لدولنا نحن القول الفصل فيه، وقد أكد الوزير كيري أخيراً على ذلك في زيارته الأخيرة لأبوظبي «المجتمع الدولي يتفهم حق السعودية والإمارات العربية المتحدة في حاجتهما في فرض الاستقرار في اليمن، وذلك لما لليمن من تأثير مباشر في أمن و استقرار المنطقة». وبدورنا نتمنى أن تنسحب تلك القراءة الأميركية المتأخرة على باقي ملفاتنا العربية انطلاقاً من مفهومنا نحن أولاً للأمن والاستقرار، وعلى إدارة الرئيس أوباما أن تعيد هي تقييم مفاهيمها بما يتناسب ومفاهيمنا تلك لماهية الاستقرار، دون الحاجة لمغالاتها في قراءة أوراق الشاي.

Email