نمط دعائي يستجيب للذهنية العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

نشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الشهر الماضي، في موقعه على الإنترنت، دراسة لأحد باحثيه ويدعى سايمون هندرسون حول ما سماه «الروابط بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي بعد خمسة وعشرين عاماً من حرب الخليج الأولى». لوهلة أولى تبدو الدراسة وكأنها جهد بحثي رصين، لكنها في النهاية ليست سوى مجموعة من الأكاذيب ضمن نمط متكرر للدعاية الإسرائيلية.

زعم الكاتب أن هناك علاقات اقتصادية بين إسرائيل ودول الخليج الست، أما الأدلة فهي كالتالي: في أثناء وجوده في بلدة الناصرية في العراق عام 2004 دخل مطعماً وطلب بيرة مع العشاء فأتى له النادل بعلبة بيرة إسرائيلية. هذا هو الدليل الوحيد الذي قدمه للعلاقات الاقتصادية التي زعم أنها قائمة بين دول الخليج وإسرائيل.

أما أدلته الأخرى، فهي أحاديث لسفراء ودبلوماسيين إسرائيليين في الأمم المتحدة وفي الولايات المتحدة، يتحدثون فيها عن افتراضات بأن هناك مصلحة مشتركة بين دول الخليج وإسرائيل في مواجهة البرنامج النووي الإيراني.

كما زعم أن هناك «مكتباً سرياً لإسرائيل في مكان ما من الكويت»، والدليل هو ما نشر في صحيفة إسرائيلية عن البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في الخارج، ووصل بالخطأ إلى الصحيفة الإسرائيلية، إضافة إلى حساب على موقع تويتر باسم (@israelinthegcc) ويوضح أنه لم يشهد أي حركة تغريد.

هذا المعهد أنشأه اللوبي الصهيوني في أميركا الذي تمثله لجنة الشؤون الخارجية المعروفة اختصاراً باسم «آيباك»، وعهدت بالمهمة إلى الأسترالي مارتن أنديك الذي تقول سيرته الذاتية المنشورة إنه من عائلة يهودية بريطانية هاجرت إلى أستراليا ثم إلى أميركا، وانضم إلى جماعة الضغط اليهودية «آيباك» عام 1982، وقام بتأسيس معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى عام 1985، قبل أن يكتسب الجنسية الأميركية عام 1993 ويخدم لاحقاً في إدارة بيل كلنتون.

وهو صاحب نظرية «الاحتواء المزدوج» حيال إيران والعراق، كما عين لاحقاً سفيراً في إسرائيل في الفترة من 1995 إلى 2001.

في المقال كثير من الادعاءات المضللة دون أدلة تعزز هذه الإدعاءات إلا إيحاءات. علبة البيرة الإسرائيلية في بلدة جنوبي العراق لن تسند حكماً أطلقه يقول إن هناك علاقات اقتصادية بين إسرائيل ودول الخليج، فالمنتجات الإسرائيلية تتسرب وبخفية وعن طريق طرف ثالث ورابع ومهربين وأخطاء الجمارك وأسباب أخرى، كما أنه يتحدث عن العراق في ظل الفوضى التي أحدثها الاحتلال الأميركي.

وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال دليلاً على علاقات اقتصادية بما فيها من تبادل منتظم للسلع والبضائع استيراداً وتصديراً وحركة طيران وخلافه، لكن العبارة هنا «إيحائية» وليست مبنية على حقائق أو أدلة ملموسة.

أما أحاديث السفراء الإسرائيليين، فإن الكاتب يطرحها باعتبارها أدلة لا تحتمل الشك، رغم أنه يعترف في فقرات لاحقة بتحاشي السفراء العرب لقاء نظرائهم الإسرائيليين في الأمم المتحدة أو في واشنطن، ورفضهم دعوات حضور مناسبات ترسلها السفارة الإسرائيلية.

وكأن علينا أن نصدق أي عبارة يقولها دبلوماسي إسرائيلي وكأنها حقيقة مطلقة لا تقبل الشك. في هذه التصريحات لعب على سياق عام يفترض تلاقي مصلحة دول الخليج مع إسرائيل في مواجهة طموحات إيران النووية وهو سياق عام يدركه أي شخص متابع، لكن السياق شيء ووجود تحركات حقيقية شيء آخر.

من جديد، يستغل الكاتب هذا السياق ليوحي بوجود تعاون، مستنداً فقط إلى أحاديث دبلوماسيين إسرائيليين. الأهم من هذا أن المصادر التي يحاول بها دعم ادعاءاته كلها غير معرفة (مصدر مقرب، مصدري الذي أبلغني، مسؤول خليجي أبلغني..).

يبقى توقيت نشر هذه الدراسة، ليقدم تفسيراً إضافياً لمحاولة معهد تابع للوبي الصهيوني تقديم دراسة مليئة بالتضليل. فالدراسة غير مؤرخة بل تمت الإشارة إلى أنها صدرت في «خريف 2015».

وإذا كان الخريف يبدأ من شهر سبتمبر، فإن الدراسة ظلت باقية في الموقع حتى أوائل نوفمبر الجاري، أي بالضبط مع تصاعد «انتفاضة القدس». هنا يتحدد السياق الزمني للدراسة ضمن نمط متكرر للحرب الدعائية الإسرائيلية طيلة العقود الماضية.

فمثل هذه المزاعم لا تظهر إلا حالتين: حرب إسرائيلية ضد الفلسطينيين أو انتفاضة فلسطينية. فمع بداية حرب 2014 على قطاع غزة، أطلق مسؤول عسكري إسرائيلي تصريحاً عما سماه «تواطؤ دول الخليج مع إسرائيل في العدوان» مستغلاً سياقاً أكبر للأحداث هو حالة العداء بين هذه الدول وبين حركة الإخوان المسلمين.

المؤسف أن مثل هذا التضليل يتقبله العرب دون تدقيق وتتبارى مواقع إلكترونية في نشره وإعادة تدويره، وكأنها اكتشفت العجلة وأسرار الكون، لتثبت من جديد أن الذهنية العربية ذهنية غير تحليلية بل ذهنية تستجيب للدعاية بشكل تلقائي.

Email